يعيد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان جدولة أولوياته في سورية مجدداً، بعد نجاح «حذر» لاتفاق سوتشي (17/9/2018) الخاص بإدلب، الذي جمعه منفرداً مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وعنون لمرحلة جديدة من مراحل الصراع على سورية، وأعاد تركيا إلى واجهة العمل الدولي كطرف مقابل لروسيا، بعد أن ألحقتها موسكو منذ بداية مسار آستانة بمحورها مع طهران، في مواجهة المحور الأميركي الغربي في سورية، وهو بإعلانه غير «الجديد» عن حرب مقبلة ضد ما يسميهم «إرهابيو شرق الفرات»، يرتب أولوياته التركية السابقة على ما يجري من حرب في سورية، وهي إنهاء ملف الأعداء التقليديين له من الأكراد الذين يضعهم على قائمة المنظمات الإرهابية، على رغم تحالفاتهم مع الولايات المتحدة الأميركية في الحرب على «داعش»، ويمهد لحرب مقبلة ضدهم «أكثر فاعلية» لاجتثاثهم من شرق الفرات. ويمكن هذا التصريح عن معركة مقبلة ضد حلفاء الولايات المتحدة الأميركية أن يثير أسئلة حول مسائل عديدة، منها ما يتعلق بالكرد المقاتلين أنفسهم، وما هو مستوى التعاون بينهم وبين داعميهم الأميركيين، وكيف يمكن فهم الهزائم الأخيرة التي ألحقتها «داعش» بهم، وهل إعلان انسحاباتهم من معركتهم ضدها في دير الزور يأتي ضمن سياقات تأطير مهمتهم، أو إنهائها لمصلحة القبول الأميركي بمطالب تركيا؟
وعلى الجانب الآخر، فإن ثمة إشارات استفهام كبيرة حول توقيت العملية ضد القوات الكردية «الإرهابية» الحليفة لأميركا في شرق الفرات وفق وصف تركيا لها، وغياب الحديث عن معركة ضد إرهاب «القاعدة» التي تمثلها «النصرة» وفصائل أخرى في إدلب؟! فهل ما يحدث اليوم من ترتيبات جديدة في المنطقة يتصل مباشرة بحقيقة التفاهمات التركية - الأميركية والأوروبية الجديدة، التي غيرت موقع تركيا في تفاهماتها مع روسيا، ما استدعى عقد قمة ثنائية عاجلة (أردوغان - بوتين) في سوتشي حول إدلب، بعد أيام قليلة من فشل القمة الثلاثية في طهران (7/9)؟
لا يمكن مقارنة التحالف الأميركي - التركي من حيث التوظيفات والعوائد والأدوار- مع التحالف الأميركي - الكردي، كما أنه لا يمكن تجاهل الصمت الأميركي (الحليف) للقوات الكردية المستهدفة في شرق الفرات على التصريحات التركية (على رغم دعوة ضبط النفس التي سمعناها في أكثر من معركة)، ما يفتح المجال أمام افتراض موافقة ضمنية أميركية على التصريحات، وبالتالي على معركة محسومة لمصلحة تركيا في إنهاء الملف الكردي، قبل الولوج إلى حل سياسي في الصراع السوري، - من المفترض أن تمهد له اللجنة الدستورية المزعم تشكيلها في سوتشي 2، ومع انطلاقة مرحلة المبعوث الأممي الجديد النروجي (غير بيدرسون) -، أي أن الكرد اليوم أمام مواجهة تستهدف وظيفتهم المفترضة وفق التصريحات الأميركية، وهي» «محاربة الإرهاب»، وتحوّلهم في الوقت نفسه إلى طرف «إرهابي» خصم لقوات هي جزء من الـ»ناتو» الذي تتزعمه أميركا.
لكن ذلك كله يبقى في إطار الترقب والبحث، فهل هي معركة عبر إعلام هدفها تفريغ المواقف المساندة للكرد غربياً، ووضعها على المحك أمام وقائع ميدانية جديدة، لاختبار مدى مصداقية الدول الغربية ومعايرتها تركياً، أو كشفها أمام القوات الكردية التي تستقوي بها، ومن خلال ذلك تحدد تركيا خطوتها التالية في تحالفاتها الدولية بين محوري روسيا وأميركا، أو أنها معركة مخطط لها ضمن سياق الأخطاء التي وقعت فيها قوات سورية الديموقراطية في ترجمة دورها وحدودها في المنطقة؟
ولعل الموقع الجغرافي للمعركة المزعومة هو من يحدد ما إذا كنا أمام حرب تصريحات أم حرب قوات، فهل تستهدف تركيا مناطق كوباني ومنطقة رأس العين وشرق تل أبيض وغربها، أي المناطق التي تغيب فيها السيطرة الأميركية، وتستولي عليها قيادات أقرب إلى إيران وفق الرواية التركية، والتي تبرر الصمت الأميركي على تصريحات تركيا عن المعركة، وهذه مسألة لا بد من مناقشتها أولاً على المستوى الكردي السوري (الخارج عن إرادة التوافق الإيراني)، وهو الأمر الذي يطرح كثيراً من الأسئلة منها:
ما هي حقيقة ما يدور حول تغلغل القوات الكردية المحسوبة على الجناح الإيراني في جسم قوات سورية الديموقراطية «قسد»، التي تشكل فيها القوات الكردية النسبة الأكبر مع وجود تنوع قومي وديني داخلها (عربي وتركماني وشركسي وآشوري/ سرياني وشيشاني)؟
وهل هذا التداخل بين القوات الكردية (ذات التوجه الإيراني) وضع كامل قيادات «قسد» تحت حالة الشك بولائهم للأجندة الأميركية في المنطقة، وتحديداً بعد اعتقالات «قسد» لقيادات داعشية من الجنسيات الأميركية والأوروبية، واستشعار الحلفاء بأن «قسد» أوقعتهم تحت حالة ابتزاز إيرانية في هذا الملف؟
وضمن سيناريو الحرب المفترضة ضد قوات «قسد» في شرق الفرات يمكن السؤال أيضاً، عن أدوات تركية في هذه المعركة، فهل هي قوات الجيش التركي، أم أن الإعلان فقط تركي، وقوات القتال سورية، تتمثل بقوات «درع الفرات» و»غصن الزيتون» أو ما يسمى الجيش الوطني المشكل منهما مع بعض الفصائل التي معظمها من أبناء المنطقة الشرقية، والذين أصبحوا اليوم قوات معطلة وظيفياً، بانتظار التسويات الدولية مع النظام، وهي تشكل في هذه العطالة ضغطاً اقتصادياً ومجتمعياً على تركيا؟
أم أنها مجرد حرب إعلامية تحصد تركيا نتائجها بالتسويات الدولية، وتلزم الولايات المتحدة على إعادة تدوير زوايا تحالفاتها، ومواقع قواتها، بما يسمح بالشراكة الكاملة مع تركيا، وهو ما يفسر تصريحات أميركية حول السيطرة مع تركيا على نسبة أربعين في المئة من الأراضي السورية، أي يمكن التكهن بأن ما سبق الإعلان التركي عن المعركة هو تفاهمات مشتركة يبررها: أميركياً، إخراج الجناح الكردي المحسوب على إيران من القوات الحليفة للولايات المتحدة، وتركياً، إبعاد القوات الكردية من على حدودها، وإشغال قوات «الجيش الوطني» بمعركة بينية قومية مناطقية، مع ملاحظة أن معظم العناصر من أبناء المنطقة الشرقية هم من الراغبين في
العودة إليها.
فإذا صح ما تقدم، فهذا يعني إغلاق ملف عفرين ومنبج في إطار التفاهمات المشتركة التركية الأميركية، ورفع أسهم أردوغان أمام نظيره بوتين قبل المؤتمر الذي يروج له «سوتشي 2» لتكون تركيا حليفاً لروسيا، لكن في الوقت نفسه نداً لها، سواء في تفاهماتها اللاحقة حول مصير اتفاق إدلب، أو في مواجهة رغبة النظام السوري في فتح معركة تبدأ في إدلب، وتتمدد إلى بلدان الجنسيات المتنوعة التي تجتمع تحت ظل «النصرة» وشبيهاتها، وحيث تتوافق المصالح الغربية في الحفاظ على التهدئة والإبقاء على صمت المعارك مع الفصائل المتطرفة في إدلب بما يضمن حصانة دولهم من انفلات عقد المقاتلين المتطرفين، وعودتهم إليها، وهو ما يهدد الأمن المجتمعي الغربي، وتتوافق الرغبة التركية مع رغبة النظام أيضاً في تحجيم دور الكرد على مختلف تبعياتهم وأهدافهم لإعادتهم إلى حضن الوطن وإلى جانب النظام وليس إيران في تشكيلة اللجنة الدستورية المرتقبة.
الحياة اللندنية