لم يُحسن السيد رجب طيب إردوغان، استثمار المكانة الخاصة لتركيا لدى المحيط العربي، وهي مكانة فيها مؤثر نادر؛ وأعني به المؤثر العاطفي.
قد لا يكون هناك إجماعٌ شعبيٌّ على الحنين لزمن الخلافة، إلا أنَّ لدى الشعوب العربية ذكريات حلوة ومرة مع ذلك الزمن، شكَّلت رصيداً يضاف إلى الرصيد الموضوعي لتركيا في العالم العربي... الدين والجوار والثقافة.
ولقد نشأت بفعل كل هذه الأرصدة علاقة وثيقة شملت كل نواحي الحياة لدى كلا الجانبين، حتى إنَّ قيام تركيا غير العثمانية بأول اعتراف إسلامي بإسرائيل، وهي في أوج صراعها الوجودي مع العرب وامتدادهم الإسلامي، وكذلك انتمائها لحلف شمال الأطلسي الذي كان يعتبره الرأي العام العربي غير صديق على الأقل، لم يضرب العلاقة التركية - العربية في جذورها، وحين كان بعضنا يستذكر حكاية لواء الإسكندرون، كان التغاضي والتبرير بديلاً عن اعتبار استعادة هذا الجزء مهمة مقدسة وملحة.
في مقالة محدودة السطور لا يتسع المجال لسرد تفصيلي أو حتى بالعناوين لمقومات منعطفات العلاقة التركية - العربية، إلا أنَّ ما نحن فيه الآن يتطلب إلقاء نظرة موضوعية على واقع العلاقة؛ ولنبدأ بأمر العلاقة مع إسرائيل...
تتقدم تركيا الجميع في مستوى وشكل ومضمون هذه العلاقة، ما أفقد الدولة التركية جدية الاختلاف مع الدولة العبرية وتأثيره، خصوصاً بشأن الفلسطينيين وكذلك موقفها من مسألة التطبيع، وإذا ما وضعت المواقف والسياسات في الميزان، فإنَّ كفة العلاقات مع إسرائيل ترجح كثيراً على كفة العلاقات مع الفلسطينيين ومعظم العرب، من دون إلغاء أهمية أي مبادرة تركية لمصلحة طرفي الانقسام الفلسطيني؛ ففي غزة يتغنون بمآثر دولة الخلافة، وفي الضفة يستذكرون عدد الزيارات التي قام بها عباس لتركيا، وفي كلتا الحالتين تبدو المزايا غير جوهرية ويغلب عليها الطابع الرمزي والدعائي.
أمر آخر وهو الكيفية التي عالج بها السيد إردوغان العلاقة مع مصر، بحيث اختار الحاكم الأول والأخير للدولة التركية، دمج سياساته ومواقفه بسياسات ومواقف الإخوان المسلمين المصريين تحديداً، كأن إردوغان اختار «مستحيل» الإطاحة بالنظام المصري على «ممكن» التعايش مع الدولة المصرية، في ظل الاختلاف حول أمر واحد، فلم يكن مناسباً ولا حتى مجدياً أن يفتح السيد إردوغان معركة إعلامية تحريضية ينفق عليها الكثير، أي أنه وضع تركيا «العظمى» في زاوية ضيقة، من خلال تجاهله المتعمد لبديهية تاريخية واستراتيجية، وهي أن مصر تجسد البوابة الرئيسية للعالم العربي، وإذا ما وسعنا الدائرة أكثر فهي بمكانتها الفعلية أكبر بكثير من بوابة.
في لقاء كنا فيه ضيوفاً على الرئيس أمين الجميل في «بكفيّا»، اجتمعنا مع ممثل لحزب العدالة والتنمية التركي، وتحدثنا عن الخلل الفادح الذي اعترى العلاقة مع مصر بفعل المبالغة التركية في الاندماج مع الإخوان... الخلاصة أنَّنا نصحنا صديقنا التركي بأنَّ استضافة الإخوان المصريين اللاجئين إلى تركيا أمر يمكن هضمه، أما فتح معركة مستمرة لسنوات فهذا ما لا يليق بدولة عظمى لها مصالح أساسية مع الدولة العظمى مصر، واقترحنا عليه مخرجاً هو الوساطة، فإن نجحت كان بها، وإن لم تنجح فإنَّ العمل عليها يتفادى الخسارة وتسميم الأجواء، وتعميق العداوة بين دولتين بينهما كثير من الروابط الإيجابية المشتركة.
الأنباء التي تحدثت عن تطور إيجابي أولي في العلاقة بين البلدين الكبيرين أثلجت صدور محبي مصر وتركيا، وستؤدي لو تمَّ تطبيع العلاقات من كل جوانبها إلى فوائد مشتركة للطرفين، فأطلسية تركيا «السكر قليل» والعلاقة الموروثة والمتنامية مع إسرائيل ليست بأي حال وأي مقياس، بأهم من علاقة تركيا مع مصر وامتدادها العربي والإسلامي، وكذلك الأمر مع الفلسطينيين الذين يريدون من تركيا أكثر بكثير مما تقدم مع شكرهم لكل ما يُقدّم.
تطبيع العلاقات مع مصر لن يكون تطبيعاً لعلاقة ثنائية بين بلدين يعيشان في منطقة واحدة، بل ستفتح الأبواب لعلاقات صحية مع كل حلفاء مصر، وأولهم وليس آخرهم دول الخليج التي تعرف تركيا أكثر من غيرها ماذا تعني العلاقات الطبيعية معها.
الشرق الأوسط