- إطلاق نار من آليات الاحتلال شمال غربي مخيم النصيرات وسط قطاع غزة
بعد زيارة مايك بومبيو، وزير الخارجية الأميركي، إلى إسرائيل، بدا واضحًا وكأنّ الضمّ لأجزاء من الضفة الغربية قد تأجّل، بعد أن طالبت إدارة الرئيس دونالد ترامب بأن يندرج الضم ضمن تطبيق الرؤية الأميركيّة الكاملة، وإعطاء فُرصة للفلسطينيين لإجراء مفاوضات فلسطينية إسرائيلية، ودعوة الفلسطينيين إلى تقديم عرض مضاد للخطة على طاولة المفاوضات، وبذلك حوّلت الضوء الأخضر الذي منحته لحكومة الاحتلال إلى ضوء أصفر وفق تعبير صحيفة نيويورك تايمز، وظهر وكأنّ رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو قد وافق وأزال الضم من الخطوط العريضة للحكومة التي نُشِرت قبل وصول بومبيو. ورغم تأكيد بومبيو ومساعديه بأنّ الضم قرار إسرائيلي إلّا أنّ إدارة ترامب لم تُخفِ رغبتها في تأجيل الضم.
ماذا عدا عمّا بدا حتى يحدث هذا التغيّر؟
مثلما يقال "يا فرحة ما تمت"، قال نتنياهو (الحريص على إنهاء حياته السياسية بالضم وتحقيق إنجاز تاريخي وانتهاز فرصة وجود ترامب في البيت الأبيض) خلال أداء حكومته اليمين القانونية، “حان الوقت لفرض القانون الإسرائيلي على الضفة، وهذه الخطوة لن تبعد السلام، بل ستقربه، والمستوطنون باقون في منازلهم”، ولكنه لم يحدد موعدًا للتنفيذ.
بلا شك، وجدت إدارة ترامب نفسها في ورطة بعد طرح رؤيتها. فالفلسطينيون رغم خلافاتهم وانقسامهم رفضوها، لدرجة أن السلطة ستفقد مبرر وجودها في حال جرى الضم، وهو العمل لإنهاء الاحتلال وتجسيد الدولة الفلسطينية، وقد يؤدي ذلك رغمًا عنها إلى انهيارها واندلاع فوضى، أو إلى انتفاضة يزيد من احتماليتها تفاقم الأحوال الاقتصادية سوءًا وبمعدلات كبيرة جرّاء وباء كورونا.
كما أن الأردن قلق جدًا من الضم الذي يهدد وجوده ويعيد إحياء مؤامرة "الوطن البديل"، وتهجير الفلسطينيين إلى الأردن، ويستعد للرد على الضم الذي سيؤدي إلى معركة كبيرة، ويدرس كل الاحتمالات كما صرح الملك الأردني عبد الله الثاني لصحيفة "دير شبيغل"، وفق تقديرات بأن الأردن يمكن أن يصل إلى تجميد معاهدة وادي عربة التي جاءت بعد اتفاق أوسلو، وممكن أن تذهب إذا ذهب. وهناك بحث لخطوات فلسطينية أردنية مشتركة ردًا على الضم.
أما أوروبا فتبحث تنفيذ عقوبات على إسرائيل إذا نفذت الضم، وإن لم تستطع فرض عقوبات كبيرة بشكل جماعي يمكن لبعض الدول الأوروبية اتخاذ عقوبات فردية والاعتراف بالدولة الفلسطينية. وحتى الدول العربية التي أبدت إيجابية إزاء رؤية ترامب تجد نفسها محرجة إذا نُفِّذَ الضم وأدى إلى اضطرابات بالمنطقة، ما يهدد بوقف أو عرقلة مسيرة تطبيع علاقاتها مع إسرائيل.
يضاف إلى ذلك، معارضة داخل الأوساط الإسرائيلية والصهيونية في إسرائيل والولايات المتحدة حتى داخل الحكومة، للضم الأحادي بدون عملية سياسية، إلى جانب تحذير أوساط الجيش وأجهزة الأمن الإسرائيلية من خطورة هذه الخطوة، لاسيما في ظل وباء كورونا، وتصاعد الصراع الأميركي الصيني على قيادة العالم، وما يقتضيه ذلك من تركيز على الصين، لذلك كان الهدف الأول لزيارة بومبيو إبعاد إسرائيل عن الصين.
كما أن هناك رفض في الولايات المتحدة لخطوة الضم الأحادية، كونها لا تعطي مكاسب إستراتيجية حتى لإسرائيل، لاسيما أن الضم الفعلي حاصل، والسيادة الإسرائيلية قائمة من النهر إلى البحر من دون ضم قانوني، الذي لا يجب التقليل من خطورته ولا من خطورة الوضع الحالي، فضلًا عن أن هذه الخطوة يمكن أن تسبب خسائر إستراتيجية من دون أن تكون جزءًا من عملية سياسية ومفاوضات مع الفلسطينيين، وهذا يعود إلى تداعياتها المحتملة على الأمن والاستقرار والسلام في المنطقة والعالم، وعلى إسرائيل، فهي توجه ضربة قاتلة لما يسمى "حل الدولتين".
ويمكن أن يؤدي الضم كذلك إلى انهيار (وليس حل) السلطة، وتقوية أنصار المقاومة المسلحة بين الفلسطينيين والمنطقة واندلاع انتفاضة، وتهدد استقرار الأمن على الحدود الأردنية مع فلسطين المحتلة، ويمكن لإيران وحزب الله وغيرهما من القوى المعادية لإسرائيل أن تجد موطئ قدم لها في الأردن، إضافة إلى أن هذا الأمر يزيد من خطر تحوّل إسرائيل إلى دولة ثنائية القومية. لذا، يشدد المعارضون للضم على ضرورة أن يكون بمشاركة الفلسطينيين، وبعضهم يتحدث عن ضرورة استسلام الفلسطينيين أولًا، والمحافظة على حل الدولتين، وما يتطلبه ذلك من الانسحاب من المستوطنات المعزولة وغير القانونية.
ومن ضمن أسباب المعارضة الإسرائيلية أن الضم فورًا ومن دون مفاوضات لا يحوز على الدعم الأميركي، إذ يعارضه الحزب الديمقراطي وغيره من اتجاهات وأوساط عسكرية وأمنية داخل الولايات المتحدة، فضلًا عن إسرائيل تحرص على دعم أميركا وليس طرفًا فيها فقط، وخصوصًا في ظل تزايد فرص جو بايدن بالفوز في الانتخابات الرئاسية، الذي أعلن سلفًا معارضته للضم، وتأييده لإعادة القنصلية الأميركية إلى القدس الشرقية.
لا يتناقض إعلان نتنياهو عن تمسك حكومته بالضم، مع الدعوات الأميركية لتأجيل التنفيذ، لأن الحديث يدور عن توقيت الضم وربطه بمحاولة إشراك الفلسطينيين، وإذا رفض الفلسطينيون سيُحمّلون المسؤولية عن الضم. والهدف من إشراك الفلسطينيين استكمال ترويض السلطة لتقبل برؤية ترامب.
وليس لدى نتنياهو ما يخشاه لأنه يدرك أن ترامب سيحتاج إلى الضم أكثر منه، خصوصًا إذا اقتربت الانتخابات الرئاسية الأميركية، وبقي الاقتصاد الأميركي على ما هو عليه الآن أو تفاقم، حيث سيكون بحاجة إلى دعم المحافظين الجدد والأنجليكانيين أكثر، وهؤلاء يرضيهم الضم.
ولعلّ تأجيل الضم مرتبط أكثر شيء بحاجة ترامب إليه عشية الانتخابات مباشرة حتى يعطي مفعوله بتعزيز فرصه بالفوز، كونه إذا جرى في تموز يفقد قوة الدفع حين تجري الانتخابات.
الرئيس محمود عباس أمام وضع أصعب، إذ تتزايد عليه الضغوط العربية والأوروبية والأميركية للانخراط في عملية المفاوضات بحجة أنه لن يكون ملزمًا بقبول رؤية ترامب، وينصب له فخ بادعاء أنه يمكن أن يعدّلها أو يخرّبها من الداخل، ويمكن أن يفاوض على المناطق المضمومة مثلما فاوض حافظ الأسد إسحاق رابين على الجولان رغم الوديعة، وأنّه بمقدوره أن يناور بذلك ويكسب وقتًا حتى تشرين الثاني، وبعدها يتراجع خطر الضم إذا فاز بايدن، و إذا فاز ترامب سيكون الانخراط بها أهون الشرور لأن رؤيته للحل ستكون اللعبة الوحيدة في المدينة، وتبقى أفضل من انهيار السلطة واندلاع انتفاضة، أو نشوب فوضى وما تقود إليه من فلتان أمني وتعدد السلطات ومصادر القرار.
ما يدفعني لقول ذلك التناقض الصارخ الذي يظهر بين أن السلطة ستحصل على قرض من دولة الاحتلال بـ 800 مليون شيقل، في ذات الوقت التي تعلن استعدادها لوقف كل الاتفاقات والعلاقات مع الاحتلال، ما يجعل ما قاله أليكس فيشمان المعلّق الإسرائيلي بأن القرض دفعة للتهدئة على حساب الضم وارد.
هناك شيء يدور أو يمكن أن يدور من وراء ستار، وسيخرج إلى العلن عاجلًا أم آجلًا. شيء من قبيل الاتفاق على تأجيل الضم، والشروع أو من دون الشروع في مفاوضات سرية أو علنية بزعم التوصل إلى “حل وسط” بين رؤية ترامب والموقف الفلسطيني الذي سقفه منخفض أصلًا، وإذا لم تصل إلى حل فمن شأن المفاوضات تهدئة الموقف وتقليل التداعيات الكبيرة في حال حصول الضم.
وصلت مسيرة التسوية إلى طريق مسدود قبل مجيء ترامب إلى البيت الأبيض، ومن الصعب جدًا إحياؤها من النقطة التي وصلت إليها سابقًا، بل من نقطة أدنى، فإن مثل هذا السيناريو لا يمكن استبعاده كليًا ما دامت القيادة الفلسطينية أو غيرها من القوى الفلسطينية الفاعلة لم تتبنَّ شق طريق بديل عن المسارات السابقة التي وصلت جميعها لأسباب مختلفة إلى طريق مسدود. وإذا لم يشق الفلسطينيون مسارًا جديدًا، وشرعوا في العمل على توفير مستلزمات تحقيقه ستكون القيادة أمام التعايش، ثم التعاطي مع ما هو مطروح، وإذا لم توافق سيجري تغييرها، وفرصة التغيير قائمة في ظل احتمالية شغور منصب الرئيس.
كلمة أخيرة: بضم قانوني أو من دونه الفلسطينيون في مأزق، فمخطط الضم الزاحف من خلال المصادرة والتهويد وتوسيع الاستيطان الاستعماري في القدس وغيرها مستمر وبتسارع شديد، وهم بحاجة إلى إحباطه من خلال تغيير المسارات المعتمدة، وليس مثلما نرى باعتماد سياسة انتظارية تقوم على أنه إذا أقر الضم حينًا أو إذا طُبِّقَ حينًا آخر سيتم تنفيذ خطوات فلسطينية تلغي الاتفاقات والعلاقات.
نتنياهو في مأزق رغم قوته، سواء قام بالضم القانوني أم لم يقم، ويمكن إحباط مخططاته إذا اعتمد الفلسطينيون إستراتيجيات جديدة، تقوم على نهاية التسوية التفاوضية عبر الأدوات والأسس السابقة، وتغيير وظائف السلطة والتزاماتها، وإعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير، والإقلاع عن الأوهام والحسابات الخاطئة بأن المفاوضات ستؤدي إلى حل يحقق الحقوق الفلسطينية. فالمفاوضات إذا وافق نتنياهو على استئنافها ستؤدي في أحسن الأحوال إلى بقاء السلطة مع استعدادها للقبول أو التعايش مع ما تفرضه دولة الاحتلال، والسلطة قبل أن تتنازل أكثر تحوّلت إلى عبء يجب التخلص منه فكيف إذا أصبحت دمية بيد الاحتلال.
وللذكرى أقول، صدرت قرارات من كل المؤسسات الفلسطينية منذ خمس سنوات ولم تنفذ، وذلك قبل فوز ترامب وطرح رؤيته، لذا فقد تأخر الوقت وتضاعفت المخاطر، ولا بد من وضع رؤية شاملة جديدة تطبق بالتدريج، وتنبثق عنها خطط تناسب كل الاحتمالات والمديات.