- الإعلام العبري: أهالي مختطفين في غزة يعتصمون أمام مكتب نتنياهو بالكنيست للمطالبة بإبرام صفقة تبادل سريعة
يبدو هذا العنوان صادماً ومتسرّعاً، على الأقلّ من الوهلة الأولى. أمّا أنا فأراه ممكناً، بل وأراه واقعياً، أيضاً.
لماذا وكيف؟
تذكرون في الأيّام الأولى للحرب «الفزعة الغربية» التي لم يسبق لها مثيل حين تقاطر معظم قادة «الغرب» إلى تل أبيب في مشهد «حَجِيجي» عجيب وغريب، للإعراب عن دعمهم لإسرائيل، أمام «الخطر الوجودي» الذي مثّله هجوم حركة «حماس» على «غلاف غزّة» وعن حقّ دولة الاحتلال في الدفاع عن نفسها أمام هذا الخطر بكلّ السبل والوسائل التي توفّر لها مثل هذا الحق.
لم يرَ «الغرب» في حينه أنّ إسرائيل تقوم بإبادة جماعية، ولم يلاحظ هذا «الغرب» أنّ قتل المدنيين الفلسطينيين، والتدمير الكامل لكلّ مقوّمات حياتهم في قطاع غزّة، وحرمانهم من الماء والدواء والغذاء، أيّ مظهرٍ من مظاهر التطهير العرقي، أو جرائم الحرب، أو حتى أيّ مظهرٍ من مظاهر انتهاك القانون الدولي.
قَبِلَ «الغرب» وتقبّل الرواية الإسرائيلية، وغطّى على الجرائم التي تم ارتكابها من على قاعدة هذه الرواية، حتى عندما تمّ «اكتشاف» الزيف الذي انطوت عليه تلك الرواية، وعندما تمّ تفنيدها على الهواء مباشرة، بل وعندما أثبتت مشاهد بثّها الإعلام الإسرائيلي غير الرسمي أنّ الدبابات والطائرات والمدفعية الإسرائيلية نفسها قد تسبّبت بقتل عشرات، وربما مئات المدنيين الإسرائيليين، في بعض المواقع التي بُثّت آنذاك.
يبدو أنّ «الغرب» في حينه، شأنه شأن بعض القيادات السياسية والعسكرية والأمنية الإسرائيلية قد ظنّ أنّ العمليات العسكرية في القطاع وبهذا الزخم المدمّر لن تستغرق أكثر من عدّة أسابيع إلى درجة أنّ هذا «الغرب» نفسه كان متردّداً في تأييد الحملة البرية العسكرية الإسرائيلية، وكان متشكّكاً في النوايا الحقيقية منها، وكان متخوّفاً من أنّ تؤدّي إلى نوعٍ من إعادة احتلال القطاع، وهو الأمر الذي كان سيعني امتداد الحرب ودخولها في مراحل من الاستنزاف الذي لن يؤدّي مطلقاً إلى تحقيق الأهداف الإسرائيلية المعلنة في حينه.
طالت الحرب، وتواصلت الإبادة، والقتل والتدمير والتجويع، وتواصل التهجير والتشريد، وأصبح مئات الآلاف تحت القصف الهمجي المباشر، واُلقي على أهل القطاع وبيوتهم وكلّ مقوّمات حياتهم ومرافقها آلاف الأطنان من القنابل أمام الشاشات التي كان تنقل هذه الهمجية إلى أن بدأت الشوارع «الغربية» بالتحرّك النشط، وإلى أن بدأت تظهر تفاعلات دولية انتهت إلى محكمة العدل الدولية، وقبلها كلّ مؤسّسات حقوق الإنسان العالمية، وبدأ يدبُّ في أوساط متزايدة من الشعوب، وحتى البلدان حالة غير مسبوقة من الرفض، خصوصاً في أوساط الشباب، بما في ذلك أوساط الشباب في الولايات المتحدة الأميركية نفسها.
بعد مضيّ ما يقارب النصف عام على هذه الحرب الإجرامية ها هي الصورة تنقلب على رؤوس قادة «الغرب»، وعلى رؤوس قادة إسرائيل.
آخر ما حُرّر على هذا الصعيد هو ما يجب أن نراه، وما يجب أن نتأمّل فيه، لأنّ له من المعنى والمغزى والأهمية ما يكفي للتعبير عن الإمكانية الواقعية لتفكّك «الغرب» بسبب الخلاف وبسبب الاختلاف على حرب الإبادة الجماعية على القطاع.
قضى المستشارون القانونيون للحكومة البريطانية بأنّ إسرائيل انتهكت وتنتهك القانون الدولي في حربها على القطاع.
أمّا ألمانيا فقد حذّرت إسرائيل من أنّ الشعب الألماني بدأ يتغيّر أو يُغيّر موقفه من تأييده الأخيرة.
أوساط الشباب، تحديداً في الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة تغيّر موقفها من حرب الإبادة والتجويع، ومن دولة الاحتلال، والسخط على السياسة التي تمارسها.. في هذه الأوساط أصبح يقضّ مضاجع الإدارة الأميركية، وأصبح مصير جو بايدن الانتخابي في دائرة الخطر الشديد.
ومن المؤكّد تماماّ أنّ مصير القيادات «الغربية» التي أيّدت حرب الإبادة الإسرائيلية لن يكون أفضل من مصير بايدن في الاستحقاقات الانتخابية لهذه القيادات.
المهمّ الآن أنّ كل أوروبا باستثناءات لا تكاد تُذكر هي مع وقف إطلاق النار على طريق إنهاء الحرب، ويكاد الموقف الأميركي نفسه يصل، أو هو في طريقه إلى ذلك، وكلّ أوروبا باستثناءات هامشية ضدّ الحملة التي يهدّد بها بنيامين نتنياهو مدينة رفح وكامل المحور من حولها.
الجديد الأهمّ في هذا كلّه هو الموقف الفرنسي.
فبعد أن كان الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون من أشدّ المتحمّسين لحرب الإبادة، وبعد أن هرع مُسرعاً إلى دولة الاحتلال، وانبرى للدفاع عنها بصورةٍ تدعو للشفقة عليه، وعلى حكومته، وجاب كلّ دول الإقليم المؤثّر بهدف بناء حلف دولي جديد سمّاه «الحلف على الإرهاب»، وتبنّى هو شخصياً مهمّة قيادة هذا الحلف والإشراف عليه، وتأمين متطلبات نجاحه بعد قيامه.. بعد كلّ هذه المواقف التي بلغت ذروة التأييد الأوروبي للإبادة الجماعية والقتل الجماعي والتدمير الشامل للقطاع، والسكوت عن قتل عشرات آلاف المدنيين الفلسطينيين، وعن تشريدهم وتجويعهم وترويعهم يطلّ علينا ماكرون بموقفٍ جديد تماماً، وخارج كلّ سياق سابق للمواقف الفرنسية من هذه الحرب الهمجية باقتراحٍ ينوي تقديمه إلى مجلس الأمن يطالب من خلاله بوقف غير مشروط لإطلاق النار، ومن دون أن يرتبط هذا الوقف حتى بـ«تحرير» الأسرى الإسرائيليين!
وطبعاً لا يمكن أن تقدم فرنسا على نيّةٍ من هذا النوع دون أن تتشاور مع الدول الأوروبية الفاعلة على الأقل، خصوصاً ألمانيا، كما لا يمكن أن يخطر ببال فرنسا الإقدام على اقتراحٍ من هذا القبيل دون أن تكون «اهتدت» على الأقلّ أنّ الولايات المتحدة الأميركية ربما لن تكون معارضةً لمثل هذا الاقتراح، أو أنّها ــ أي الولايات المتحدة ــ ستكون محرجةً إلى آخر حدود الإحراج استخدام «حق النقض» «في وجه دولة أوروبية «غربية» لها مكانتها الكبيرة داخل المنظومة «الغربية» مثل فرنسا.
ويمكن الاطمئنان، أيضاً، أنّ فرنسا قد تشاورت مع معظم دول الإقليم العربي، وقبلها مع بريطانيا، وبعض الدول الفاعلة على الصعيد الدولي.
ما لا يمكن تصوّره مطلقاً هو أن تكون دولةً بمكانة فرنسا وهيبتها الأوروبية والعالمية، وما لا يُعقل أبداً أن تتصرّف بمعزل عن كلّ هذه المشاورات، وهي بهذا المعنى إنّما تستشعر بصورةٍ مؤكّدة، وتشم رائحة يمكنها أن تفسد الإقليم كله، وأن تلوّث وتسمّم كامل مناخ المنطقة من خلال درجة عالية من خطر الانزلاق إلى حربٍ ستقضي على البقية الباقية من رصيد الجزء الأكبر للقيادات «الغربية» كلها من دون استثناء، والبقية الباقية هي قليلة على كلّ حال.
وبما أنّ الشعور بالأخطار، والانتخابات هي كلمات السرّ المفتاحية في قرارات مراكز القرار في «الغرب» كلّه، وبما أنّ مراكز هذه القرارات باتت على هذه الدرجة من الشعور بالخطر، وبما أنّ إسرائيل بالنسبة للغالبية الساحقة من الدول «الغربية» إنّما تخوض حرب «اليمين» وحرب نتنياهو، وليس بالضرورة حرب المشروع الصهيوني في المنطقة، وحرب الدولة الإسرائيلية في الإقليم.. بما أنّ الأمور باتت كذلك فقد شرع «الغرب» بالتسابق على القفز من السفينة التي يقودها نتنياهو نيابةً عن «اليمين» الفاشي وعن بقية المتطرّفين والعنصريين في حكومة التحالف الفاشي التي تجلس على مقاعد هذه السفينة، ويبدو أنّ ماكرون سيكون الفائز الأوّل في مسابقة القفز هذه.
باختصار، ينفرط الحلف الذي تخيّلت إسرائيل أنّه بات حولها، يحميها ويدافع عنها في كلّ الأحوال.
هذا الحلف سيدعم دولة الاحتلال بشروطه من اليوم فصاعداً، وليس بشروط نتنياهو، لأنّ شروط هذا الأخير أصبحت تتضارب كلياً مع مصالح قيادات «الغرب» الذي بات يتلقّى اللكمات والصفعات من كلّ جانب، بما في ذلك الصفعات واللكمات الداخلية، والتي هي في طريقها أن تتحوّل إلى ركلات قويّة إذا فات أوان الاستدراك، ومقدّمات التفكّك تؤيّدها معطيات دولية أخرى سنأتي عليها في المقالات القادمة، لكن المهمّ أنّ هذا التفكّك قد بدأ من القطاع.