الكوفية:حيث يمكن لأغلبية عضو كنيست إسرائيلي واحد، أن يحدث انقلابا في نظام الحكم، لا يمكن اعتبار أن إسرائيل بذلك دولة ديمقراطية مستقرة، ويعود ذلك إلى كونها الدولة الوحيدة في العالم التي لم تعلن حدودها بعد، ولا كذلك طبيعتها أو جوهرها، فهي في الوقت الذي تدعي فيه أنها دولة ديمقراطية، تطالب الآخرين، وأولهم الفلسطينيون، بتعريفها كدولة يهودية، وهي الدولة الوحيدة ربما التي ليس لها دستور، ولو كانت كذلك فإن أي تعديل دستوري يحتاج أغلبية الثلثين وليس الأغلبية البسيطة، وما يزيد طين عدم الاستقرار الداخلي في إسرائيل بلة، هو أن الكنيست برلمان من غرفة واحدة، وليس كما هو حال كثير من برلمانات الدول الديمقراطية، البريطاني مثلا المكون من مجلسي العموم واللوردات، والأميركي، حيث يتكون الكونغرس من مجلسي الشيوخ والنواب.
حقيقة الأمر، أن استمرار احتلال إسرائيل لأرض دولة فلسطين، دفع شيئا فشيئا بالمستوطنين، وهم مواطنون إسرائيليون، خارجون على القانون الدولي، تربوا على اللصوصية وقطع الطريق وكراهية الآخر لدرجة قتله، لذا هم متطرفون بشكل عام، وهم ناخبو اليمين المتطرف، وحقيقة أنهم أوصلوا نفتالي بينيت وإيليت شاكيد، ومن ثم بتسلئيل سموتريتش، المقيم في واحدة من المستوطنات المغتصبة لأرض دولة فلسطين في الضفة الفلسطينية، إلى مقاعد الحكم والتحكم بالدولة، يعني بأن داخل إسرائيل باتت هناك دولتان، واحدة تأسست على قيم الغرب الليبرالي، منذ العام 1948، ومواطنوها يعيشون في المدن الكبرى الرئيسة، تل أبيب، حيفا، نتانيا، وكانوا قاعدة الحزبين الكبيرين متداولي السلطة، فيما الدولة الثانية، هي دولة الاحتلال، دولة المستوطنين، الذين باتوا يقبضون على رقبة إسرائيل، خاصة في ظل الحكومة الحالية.
لهذا ليس من غير معنى أو دلالة، أن تشهد إسرائيل أخطر محاولة لتغيير نظام الحكم في ظل أكثر حكوماتها تطرفا، أي هذه الحكومة التي يقودها إلى أقصى اليمين، شريك «الليكود» المتمثل بكل من «الصهيونية الدينية» و»القوة اليهودية»، تلك المحاولة التي تنتقل بإسرائيل من ارثها كدولة وليدة نظام الغرب الليبرالي، إلى عالم الشرق الاستبدادي، أو استحضار تاريخ أسطوري خرافي، يشكل ثقافة المتطرفين من المستوطنين الذين أقاموا دولة الاحتلال، أي إسرائيل على ارض دولة فلسطين، وكانت إسرائيل الغربية الليبرالية قد أعلنت العام 1948 دون أن تدعي بأن لها حقا لا تاريخي ولا قانوني ولا ديني في أرض الضفة الغربية، وقد أعلنت كدولة بعاصمتها تل أبيب، ولو كان الأمر غير ذلك، لكان ديفيد بن غوريون، أجل إعلان دولة إسرائيل، أو أنه على الأقل أعلنها كدولة مؤقتة، خاصة أن إسرائيل الغربية أعلنت على الأرض التي منحت لها وفق قرار التقسيم الأممي، مضافا لها نصف أرض دولة فلسطين، التي احتلتها العصابات الصهيونية العام 1948.
إن الصراع داخل إسرائيل الذي يجري حاليا، هو صراع حقيقي، ولا يمكن حله وفق الصفقات السياسية، وهو صراع بين قوتين، الأولى هي القوة التقليدية، المشكلة من الأحزاب السياسية والقوى المجتمعية التقليدية، والتي تعبر عنها معظم الأحزاب ذات القاعدة الأشكنازية، كذلك مؤسسات الدولة التي أقيمت وفق مفهوم الدولة الغربية، التي نشأت في حضن العالم الغربي، والثانية هي إسرائيل الشرقية، أو إسرائيل الاحتلالية، بقاعدتها المشكلة من مغتصبي أرض دولة فلسطين، والمقيمين في المستوطنات أو المستعمرات أو حتى المغتصبات، وعاصمة هؤلاء هي القدس الغربية والمستوطنات التي تحيط بها، أي القدس الكبرى.
إسرائيل الغربية الليبرالية، ستضطر في نهاية المطاف أن تنفصل عن فلسطين، وفق منطق حل الدولتين بصرف النظر عن تفاصيل ذلك الحل، أما إسرائيل الشرقية الاحتلالية، فهي على العكس من ذلك تماما، تجر إسرائيل نحو الشرق، وتسعى إلى ضم أرض دولة فلسطين، وتحويل إسرائيل كلها إلى دولة شرقية مستبدة، إمبراطورية لاهوتية، لا حدود لها.
وهكذا فإن الصراع لا يبدو شكليا، وما دامت إسرائيل تحولت إلى هذه الدرجة من الهشاشة، طمعا في التوسع، أي لم يتم وضع دستور لها والاكتفاء بحدودها العام 1948، فإنها تدفع، اليوم، ثمنا باهظا لذلك، كذلك لا بد من الإشارة إلى أن «تجميع» البشر من كافة أنحاء الكرة الأرضية، له ثمن، غالبا ما كان يظهر على شكل عدم التجانس المجتمعي في إسرائيل، وهو تناقض داخلي مهم، كان يجري طمسه من خارج الحروب الخارجية، أو تحويل وجهته في الاتجاه العنصري، أي ضد العرب الفلسطينيين من مواطني الدولة.
ولا بد من الإشارة أيضا إلى أن اللحظة الفارقة التي وجدت إسرائيل نفسها أمامها هذه الأيام، لم تسقط عليها من السماء، ولا هي نتيجة مؤامرة خارجية مثلا، بل هي نتيجة لنحو أربع سنوات من عدم الاستقرار الداخلي، حيث عاشت إسرائيل منذ العام 2019، محكومة معظم الوقت بحكومات تسيير أعمال، بسبب الذهاب إلى انتخابات متتالية، بلغت أربع جولات خلال مدة ولاية كنيست واحدة!
وحتى هذه الفترة من عدم الاستقرار سبقها انتقال مجتمعي متواصل نحو اليمين، منذ مطلع الألفية الثالثة، أي خلال عشرين عاما من حكم اليمين، تلاشى خلالها اليسار الذي أقام دولة إسرائيل الليبرالية وفق نظام الغرب الديمقراطي، وقد ساعد على ذلك أمران: أحدهما كوني، له علاقة بانتهاء الحرب الباردة، حيث تربعت أميركا على زعامة العالم، وتبدد الكابح الاشتراكي الذي كان يخفف من توحش النظام الرأسمالي العالمي، فظهر الإسلام السياسي في الشرق الأوسط، بجماعاته الدينية، وتعمق اليمين في العالم الغربي نفسه، أما العامل الثاني، فهو تراجع حالة الصد العربي للسيطرة الإسرائيلية، ورغم توقيع إسرائيل اتفاقية أوسلو، إلا أنها لم تواجه لا ضغطا إقليميا ولا دوليا يدفعها لتتحرر من تبعات الاحتلال، وهي تحافظ على موقع اليمين والتطرف داخلها.
في الحقيقة، ما يجعلنا نذهب إلى هذا الحد، هو أن الصراع حول خطة إضعاف القضاء، التي يدور حولها الجدل داخل إسرائيل منذ مطلع العام الحالي، أي منذ تشكلت حكومة تحالف «الليكود» مع اليمين المتطرف، لم يكن صراعا سياسيا بين قطبي النظام السياسي فقط، أي الحكومة والمعارضة، والخطة ليست موجهة أصلا للمعارضة، بل إلى القضاء، ومنه المحكمة العليا، لقضم صلاحياته من قبل الحكومة، وذلك لتحرير رئيس الحكومة نفسه من ملاحقة القضاء له، على خلفية التهم الموجهة ضده بالفساد، وكذلك لإعادة آرييه درعي زعيم «شاس» الشريك الديني في الحكومة، إلى وزارة الداخلية، التي أقصاه منها القضاء.
والدليل على ذلك أن مؤسسات الدولة الرئيسة، بما في ذلك أهمها، وهو الجيش منخرط في رفض ومعارضة الخطة الحكومية، ومع مواصلة الشارع المعارض التظاهر للأسبوع التاسع والعشرين، ومع الرفض الأميركي والغربي للخطة، وفي ظل إصرار الحكومة على تمرير الخطة، التي طرحتها للتصويت بالقراءة الأولى فعلا، تواجه إسرائيل أسبوعا من نار، يسبق نهاية تموز الحالي، حيث يذهب الكنيست إلى العطلة الصيفية، وإذا كانت المعارضة السياسية والاحتجاجات الميدانية، كذلك اتساع رقعة رفض الاحتياط العسكري الخدمة، إذا كان كل ذلك لم يردع الحكومة، التي ردت على الشارع المعارض بشارع مؤيد، بما يقترب بإسرائيل من صراع أهلي مرير، هو شكل من أشكال الحرب الأهلية الباردة، فإن التحذير بالخطر الاقتصادي بعد الخطر الأمني، قد يجبر الحكومة المتطرفة على الاكتفاء بالخطوة الرمزية المتمثلة في عدم المعقولية، وقبول الحل الوسط الذي اقترحه «الهستدروت».
و»الهستدروت»، أي اتحاد نقابات عمال إسرائيل، أهم مؤسسة اقتصادية في إسرائيل، وهو المصنع التقليدي للحكم، بما يضمه من مئات آلاف المواطنين وبقدر تأثيره على عجلة الإنتاج، في حال دخل ميدان الصراع بين الطرفين، وأعلن الإضراب مثلا، وهكذا فحتى في حال ركب نتنياهو وشركاؤه المتطرفون رؤوسهم، واقروا بالقراءتين الثانية والثالثة، مشروع خطة عدم المعقولية، وحتى في حال امتنع غالانت عن التصويت، وحتى لو تبعه آخرون، فإن الصراع الداخلي لن يتوقف عند تلك الحدود، لأن له علاقة بطبيعة دولة إسرائيل وبكونها دولة احتلال أولا وقبل كل شيء.