رحيل محمد بكري: جذر فلسطيني وصوت لا يموت
نشر بتاريخ: 2025/12/24 (آخر تحديث: 2025/12/24 الساعة: 21:30)

غادرنا اليوم الفنان والمخرج الفلسطيني الكبير محمد بكري، الذي لم يكن مجرد فنان، بل "جذر فلسطيني وسيم" كما وصفه كثيرون، تاركاً إرثاً فنياً وإنسانياً لا يُمحى.

ولد بكري عام 1953 في قرية البعنة بالجليل، ونشأ على تراب فلسطين يحمل في عينيه حكايات النكبة، وفي قلبه وجع اللاجئين، وشغفاً لا ينضب بالفن كوسيلة للتحرير والتعبير.

منذ بداياته في عالم المسرح من بوابة جامعة تل أبيب، لم ير في الفن مجرد ترف أو تسلية، بل وسيلة أخلاقية لفضح الظلم، وصوتاً لمن لا صوت لهم. وعلى خشبات مسارح "هابيما" و"القصبة" في رام الله، و"مسرح حيفا" وحتى مسارح باريس وهولندا، حمل بكري فلسطين في كل حركة، ونظرة، وكلمة.

مسيرته لم تخلُ من التحديات. فقد واجه ملاحقة سياسية واتهامات بعد إخراجه فيلمه الوثائقي "جنين جنين" الذي وثق الدمار والموت في مخيم جنين أثناء اجتياح الاحتلال الإسرائيلي. رغم الحظر والدعاوى القضائية، لم ينكسر، وكان يؤكد دائماً أنه سيعيد تصوير الفيلم مرات عديدة ليكشف العالم عن جرائم الاحتلال التي حاول طمسها.

"جنين جنين" كان أكثر من فيلم؛ كان شهادة حية لشعب يحاصر صوته، واختار بكري أن يكون الصوت، مهما كلفه ذلك من غرامات وعزلة فنية.

استمر في الإبداع السينمائي من خلال أفلام مثل "وراء القضبان"، و"حيفا"، و"هانا ك."، لكنه ظل يعتبر المسرح موطنه الحقيقي، حيث قدم عروضاً مثل "المتشائل" و"الليل والجبل" و"الموت والعذاء"، مؤمناً بأن التمثيل والمسرح وسيلة لاستعادة الحرية والذات.

وعلى الرغم من عيشه داخل الخط الأخضر، رفض بكري أي شكل من أشكال التطبيع، متمسكاً بهويته الفلسطينية كمنهج حياة، ولم يساوم يوماً على الحقيقة. كان دائماً يقول: "أنا فلسطيني، وهذا لا يناقش".

ترك بكري وراءه زوجته ليلى وستة أبناء، بينهم آدم وزياد وصالح، الذين ساروا على دربه في الفن والكتابة والمسرح، لتصبح العائلة علامة بارزة في المشهد الثقافي الفلسطيني، ممتدة جذورها من البعنة إلى كل فضاء حر.

وفي غيابه، لا نقول وداعاً، بل إلى لقاء، فمحمد بكري ليس مجرد اسم في سجل الفن، بل جزء من الذاكرة الفلسطينية الحية، وصوت لا يهدأ، وصورة لا تُمحى. رحل الجذر، لكن فلسطين تبقى، لأن رجالاً مثله زرعوا في ترابها إرادة البقاء.