الصندوق القومي الفلسطين.. بين صمت المؤسسة وواجب المساءلة
نشر بتاريخ: 2025/12/17 (آخر تحديث: 2025/12/17 الساعة: 20:47)

لم يكن الصندوق القومي الفلسطيني في أي مرحلة من تاريخه مجرد صندوق مالي فقط، بل شكل أحد الأعمدة السيادية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وتجسيداً مادياً لفكرة الاستقلال الوطني قبل قيام السلطة.

فقد مثل منذ تأسيسه عام 1964 الخزينة المركزية للمنظمة، وأداة إدارة الموارد المالية للشعب الفلسطيني في الداخل والشتات، وركيزة لتمويل العمل السياسي والدبلوماسي والاجتماعي. غير أن هذا الدور، الذي بلغ ذروته في السبعينيات والثمانينيات، تراجع تدريجياً، حتى بات الصندوق اليوم محاطاً بالغموض، ومثاراً لأسئلة قانونية وإعلامية مشروعة، لا سيما فيما يتعلق بمصير أصوله التاريخية في الخارج، وخصوصاً في لبنان.

من الناحية القانونية، يتمتع الصندوق القومي الفلسطيني بالشخصية الاعتبارية باعتباره هيئة مالية تابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية. وبموجب هذه الصفة، فإن جميع أمواله وأصوله، المنقولة وغير المنقولة، تُعد مالاً عاماً وطنياً، لا يجوز التصرف به إلا وفق تفويض قانوني صريح، وضمن أطر مؤسسية واضحة، تخضع للمساءلة والرقابة. هذا المبدأ أساس فكرة الملكية الجماعية للمال الوطني، التي تفرض الشفافية باعتبارها التزاماً لا خياراً.

تاريخياً، امتلك الصندوق القومي أصولاً مالية وعقارية واستثمارية في عدد من الدول العربية والأجنبية، وكان لبنان في مقدمتها. فقد شكل لبنان مركزاً رئيسياً للوجود السياسي والمؤسسي الفلسطيني، واحتضن مقار ومكاتب وعقارات تعود لمنظمة التحرير وصندوقها القومي، استخدمت لأغراض إدارية وسياسية واستثمارية. هذه الأصول، رغم خضوعها للقوانين اللبنانية من حيث التسجيل والإدارة، بقيت من حيث الملكية والصفة أصولاً فلسطينية عامة، لا يجوز التصرف بها إلا بقرار مركزي مؤسسي.

غير أن هذه الأصول تعرضت، منذ الحرب الأهلية اللبنانية والخروج القسري لمنظمة التحرير من بيروت عام 1982، لسلسلة من التعقيدات، شملت التجميد، والنزاعات القانونية، وربما التصرف غير المعلن. ومع غياب تقارير مالية دورية منشورة، وعدم وجود تدقيق مستقل وعلني، دخل ملف الأصول في منطقة رمادية، اتسعت أكثر بعد اتفاق أوسلو عام 1993.

لقد شكّل أوسلو نقطة انعطاف حادة في بنية القرار المالي الفلسطيني. فمع إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية، انتقلت الوظيفة المالية المركزية تدريجياً من منظمة التحرير إلى وزارة المالية التابعة للسلطة، وارتبطت الموارد بمنظومة المانحين والاشتراطات السياسية والأمنية. في هذا السياق، تراجع الصندوق القومي إلى الهامش، دون أن يُحل رسمياً، ودون أن تُحسم مسألة أصوله وممتلكاته، ما خلق فراغاً قانونياً ومؤسسياً لا يزال قائماً حتى اليوم.

في السنوات الأخيرة، عاد ملف الصندوق القومي إلى الواجهة من زاوية حساسة، هي الحديث المتداول عن بيع أو تصفية أصول، وخاصة عقارات في لبنان. ورغم تداول هذه المعلومات في أوساط فلسطينية وإعلامية، لم يصدر حتى الآن أي بيان رسمي فلسطيني، يؤكد أو ينفي بشكل قاطع حصول مثل هذه العمليات. هذا الصمت المؤسسي لا يمكن التعامل معه كمسألة إدارية ثانوية، بل يشكل بحد ذاته إشكالية قانونية وأخلاقية.

فالإشكال لا يكمن فقط في احتمال حصول بيع أو عدمه، بل في غياب الإجابة عن أسئلة جوهرية تتعلق بحق التصرف، وجهة القرار، ومصير العائدات، وآليات الرقابة. من يملك حق اتخاذ قرار البيع؟ وبأي تفويض؟ وهل أُدرجت أي عائدات محتملة في موازنات معلنة؟ وهل خضعت لتدقيق مالي مستقل؟ ولماذا لم يُقدَّم للرأي العام الفلسطيني أي كشف رسمي يضع حداً للتكهنات؟

تزداد خطورة هذا الملف حين يتعلق الأمر بلبنان تحديداً. فالعقارات الفلسطينية هناك ليست مجرد أصول مالية، بل تحمل بعداً رمزياً وسياسياً، مرتبطاً بذاكرة النضال الفلسطيني، وبمرحلة مفصلية من تاريخ منظمة التحرير. التعامل مع هذه الأصول بمنطق التصفية الصامتة، إن صح، يُعد مساساً بالثقة العامة، وبفكرة المال الوطني بوصفه ملكاً جماعياً.

من منظور قانوني، فإن المسؤولية هنا مؤسسية بالدرجة الأولى. فإذا ثبت حصول أي تصرف بالأصول دون تفويض قانوني معلن، فإن المسؤولية تشمل الجهة التي اتخذت القرار، والجهة التي نفذت، والجهة التي أدارت العائدات، إضافة إلى الجهات الرقابية التي امتنعت عن ممارسة دورها. أما إذا لم يحصل أي بيع، فإن الامتناع عن الإفصاح والتوضيح يُعد إخلالاً بواجب الشفافية، ويقع في دائرة المسؤولية السياسية والقانونية أيضاً.

إن المطالبة بالمساءلة في هذا الملف لا تعني الإدانة المسبقة، ولا تستهدف أشخاصاً أو فصائل، بل تنطلق من مبدأ قانوني بسيط، المال العام لا يُدار بالصمت. …