التسوية في أوكرانيا: ترامب يبيع أوروبا
نشر بتاريخ: 2025/12/17 (آخر تحديث: 2025/12/17 الساعة: 19:14)

بدأت تتضح شيئاً فشيئاً معالم التسوية المقبلة للحرب الروسية- الأوكرانية حتى لو لم يتم الاتفاق النهائي حول التفاصيل، ولم يوقع الطرفان المتحاربان على إنهاء الحرب والسلام بينهما. فالرئيس دونالد ترامب قرر وضع حد لهذه الحرب بممارسة ضغوط كبيرة على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي للقبول بمعظم شروط روسيا لإنهاء الحرب. وخاصة في مسألتين مهمتين: الأولى، التنازل عن إقليم الدونباس الذي تدور فيه المعارك منذ شهر شباط من العام 2022 وحتى يومنا هذا، والذي شارفت روسيا على السيطرة التامة عليه وعلى مناطق أخرى محاذية له. والمسألة الثانية هي منع انضمام أوكرانيا لحلف «الناتو». ويبدو أن زيلنسكي الذي يقع بين ثلاث نيران: الموقف الأوروبي الحليف المتشدد ضد تسليم أية أراض أوكرانية لروسيا، بحجة أن هذا سيفتح شهيتها للمزيد من التوسع، والموقف الأميركي الضاغط بشدة لإنهاء الحرب، والموقف الداخلي الأوكراني الذي يعارض التنازل عن إقليم الدونباس وهو ما تعهد به زيلنسكي، أصبح على وشك القبول بمقترح الرئيس ترامب، في مقابل الحصول على ضمانات أمنية من الولايات المتحدة تضع أوكرانيا كمحمية أميركية. وفي مقابل عدم الانضمام لـ «الناتو» ستنضم أوكرانيا للاتحاد الأوروبي.

في الواقع، لا توجد خيارات كثيرة أمام زيلنسكي، فهو يخسر أراضي كل يوم، ولا يستطيع الاتحاد الأوروبي أن يمنع التقدم الروسي بالرغم من كل الدعم الذي يقدمه لأوكرانيا، حتى مع التهديد بالدخول المباشر في الحرب من خلال إرسال قوات إلى أوكرانيا. وعملياً هذا لم يهز روسيا التي هددت بالرد بقوة تدميرية قد تشمل الأسلحة غير التقليدية. ولا يريد أن يواجه الرئيس ترامب ويخسر تأييد أميركا لأن هذا يعني نهايته. ولهذا بدأ بالتلميح بالاستعداد للتنازل الإقليمي المؤلم، والذي يتم في تبادل جزئي للأراضي مع روسيا.

الرئيس ترامب يريد إنهاء الحرب لأسباب تخصه، فهو يرى أن الدعم الذي قدمته الولايات المتحدة لأوكرانيا كان كثيراً وتبذيراً في غير محله ولم يحقق النتائج المرجوّة. فروسيا لا تزال قوية وتحارب والاقتصاد الروسي لم ينهار. والشيء الآخر الذي يريده هو السيطرة على المعادن الثمينة التي توجد في أوكرانيا. كما أنه يريد صفقات كبيرة مع روسيا تحقق لأميركا مرابح كبيرة في قطاعات اقتصادية مهمة كالنفط والغاز والتكنولوجيا، وكذلك لأنه يريد التفرغ للصراع مع الصين التي يعتبرها أكبر تهديد لأميركا، والأمر الأخير يريد أن يسجل لنفسه انجازاً سياسياً قد يؤهله لنيل جائزة نوبل للسلام، ولا يهتم ترامب بمصالح حلفائه أو مخاوفهم.

الاتحاد الأوروبي يشعر أنه معزول وأن رأيه لا يؤخذ بالاعتبار بالرغم من دور أوروبا الكبير في تمويل الحرب ودعم أوكرانيا بالمال والسلاح، بما في ذلك استقبال ملايين اللاجئين الأوكران وتقديم كل أشكال المساعدة لهم، فأوروبا ليست جزءاً من المفاوضات. وروسيا لا ترغب بأي مشاركة فعلية للاتحاد الأوروبي في العملية السياسية الجارية، والسبب هو موقف أوروبا المعادي لروسيا، فقد طمحت الدول الأوروبية الرئيسة في تحطيم روسيا عسكرياً واقتصادياً، وما حدث فعلياً هو أن الضرر على الدول الداعمة لأوكرانيا أكبر بكثير من الضرر الذي لحق بروسيا، طبعاً إذا استثنينا الخسائر البشرية. فقد صمد الاقتصاد الروسي وتكيّف مع العقوبات التي فرضت تباعاً على روسيا وآخرها القرار باستخدام الأصول الروسية لتمويل أوكرانيا، وهو الذي لا يزال موضع خلاف داخل الاتحاد الأوروبي، حيث تعارض دول كالمجر وبلجيكا تنفيذ هذا القرار. ولا شك أن الدعم الذي حظيت به روسيا من الصين ودول أخرى التي حلت محل أوروبا في استهلاك الغاز والنفط الروسي لعب دوراً مهماً في صمود الاقتصاد الروسي.

الضرر الذي لحق بأوروبا كان كبيراً، وباتت تظهر نتائجه في اقتصاديات القارة، فدولة عظمى وصاحبة أكبر اقتصاد في أوروبا تعاني من ثقل الديون ومن إفلاس عدد كبير ومتسلسل لشركاتها الاقتصادية، وارتفعت فيها الأسعار وازداد التضخم بسبب الحظر المفروض على روسيا، حيث كانت تعتمد على الغاز الروسي والآن تشتري الغاز بأسعار باهظة من الولايات المتحدة وغيرها، وكذلك الأمر بشأن الغاز وبعض المعادن النادرة، عدا عن الحبوب وسلع أخرى كانت تأتي من روسيا وأوكرانيا.

ما يشجع ترامب على المضي قدماً في خطته للسلام في أوكرانيا هو الخسائر التي تُمنى بها أوكرانيا يومياً واتساع رقعة السيطرة الروسية في إقليم الدونباس وأقاليم أخرى. وهو عندما كان يناقش زيلنسكي كان يوبّخه بسبب الخسائر على الأرض، ويقول له بدل أن تخسر لروسيا تنازلْ عن الدونباس بدون قتال وأوقِف الحرب، احصُل على الدعم لإعادة إعمار بلادك، ولا تفكر في «الناتو» فلن تصبح أوكرانيا عضواً فيه. وبالمناسبة فلدى ترامب تحفظات كبيرة على «الناتو» وكان يريد تفكيكه بسبب أن العبء الأكبر تتحمله الولايات المتحدة. ولكي يستمر الحلف فرض ترامب على الدول الشريكة في «الناتو» إنفاق 5% من الدخل القومي على السلاح والأمن، وهو ما لا تلتزم به دول كثيرة في الحلف.

الخلاصة، أن ترامب كما باع أوروبا مقابل صفقة مع روسيا يمكنه أن يبيع حلفاءه الآخرين إذا شعر أنهم يقفون أمام مصالحه. وبالرغم من أنه لا توجد مقارنة بين إسرائيل وأوكرانيا في لغة المصالح في الدولة العميقة في الولايات المتحدة، إلا أن ترامب لا يتورع عن الضغط على حليفه نتنياهو لكي ينجح مشروعه في الشرق الأوسط. وهذا من المفروض أن يجعل اللاعبين في المنطقة أكثر ذكاءً في التعامل مع ترامب، واللعب على وتر مصالحه وعدم استعدائه طالما لا يمس بمصالحهم الحيوية.