مروان البرغوثي… حين يصير الضوء فكرة وتصير الزنزانة وطناً مؤجّلاً
نشر بتاريخ: 2025/12/27 (آخر تحديث: 2025/12/27 الساعة: 21:05)

ليس مروان البرغوثي اسماً عابراً في سجلّ النضال الفلسطيني، ولا رقماً في قائمة الأسرى، ولا صورة معلّقة على جدار الذاكرة الجماعية، بل هو سردية كاملة، مكتوبة بمداد الصبر، ومختومة بختم الشمس التي تعلّم مواعيدها من ثقب زنزانة. هو ذاك الرجل الذي لم يُهزم وهو مقيّد، ولم ينكسر وهو معزول، لأن الحرية في فلسفته ليست مكاناً نغادره أو ندخله، بل موقفاً نقف فيه مهما ضاقت الجدران. حين كتب عن معانقة ضوء الشمس، لم يكن يصف لحظة عابرة في سجن أيالون، بل كان يعلن بياناً وجودياً: أن الإنسان يمكنه أن ينتصر على الحديد إن حفظ في روحه نافذة مفتوحة على السماء، ولو كانت مغطّاة بالصفيح والأسلاك الشائكة. في عالم يعتقد أن السجون تصنع الصمت، جاء البرغوثي ليحوّل العزلة إلى خطاب، والقيد إلى سؤال، والزنزانة إلى منبر يطلّ منه على شعب كامل، لا ليواسيه فقط، بل ليذكّره بأن الحرية تُصان أولاً في الداخل قبل أن تُنتزع في الخارج.

منذ أن قرّر الاحتلال أن يختزل مروان البرغوثي في مساحة ضيّقة، كان يجهل أنه يمنحه مساحة أوسع في الوعي الفلسطيني والعربي والإنساني. فالرجل الذي حُرم من الشمس، صار أكثر قدرة على قراءتها، والرجل الذي أُبعد عن الناس، صار أقرب إليهم جميعاً. في عزلة قاسية، لم يكن يهرب من المطر، لأنه أدرك أن البلل أقلّ قسوة من الجفاف الروحي، وأن الجسد قد يحتمل القسوة، لكن الروح إن أُغلقت عليها الأبواب تموت اختناقاً. هكذا صار خروجه اليومي إلى ساحة ضيّقة فعلاً من أفعال المقاومة، وصار توقيته لمواعيد الشمس نوعاً من إعادة تنظيم الزمن، وكأن الأسير يعيد تعريف الساعة على إيقاع الحرية المؤجّلة، لا على عقارب السجّان.

مروان البرغوثي ليس بطلاً أسطورياً معزولاً عن بشرية الألم، بل إنسانيته هي جوهر قوته. هو الذي عرف الخوف ولم يخضع له، وعرف الألم ولم يتصالح معه، وعرف السجن ولم يمنحه شرعية. في كتابه “ألف يوم في زنزانة العزل الانفرادي” لا يكتب عن نفسه بقدر ما يكتب عن كل أسير حُرم من أبسط حقوقه، وعن كل إنسان صودرت حياته خلف الجدران، وعن وطن كامل يعيش حالة عزل جماعي منذ عقود. النص ليس مذكّرات شخصية بقدر ما هو وثيقة أخلاقية، تقول للعالم إن الاحتلال لا يسجن الأجساد فقط، بل يحاول سجن المعنى، وأن المقاومة الحقيقية تبدأ حين نمنع هذا المعنى من الانكسار.

في تجربة البرغوثي، تتحوّل التفاصيل الصغيرة إلى رموز كبرى: نافذة ضيّقة تصبح أفقاً، وخطوة قصيرة في ساحة السجن تصبح مسيرة طويلة نحو الحرية، وقطرة مطر تصبح دليلاً على أن السماء ما تزال في مكانها، لم تُصادرها القوانين العسكرية. هو الذي فهم أن الزمن في السجن ليس عدواً فقط، بل امتحاناً، وأن الأيام إن لم تُملأ بالمعنى تحوّلت إلى سلاسل غير مرئية. لذلك ملأها بالقراءة، بالتأمل، بالكتابة، وبإعادة ترتيب العلاقة مع الذات، وكأن العزل الانفرادي كان محاولة قسرية لإسكاته، فتحوّل إلى مدرسة لتكثيف الصوت.

سياسياً، يمثّل مروان البرغوثي حالة نادرة في التاريخ المعاصر: قائدٌ يحضر بقوة رغم غيابه الجسدي، ويؤثّر في المشهد الوطني وهو خلف القضبان، ويصنع الإجماع دون أن يظهر على المنصّات. هو القائد الذي لم تُنهِه سنوات الأسر الطويلة، بل زادته شرعية رمزية وأخلاقية، لأنه دفع ثمن مواقفه من حريته الشخصية. في زمن تكثر فيه الخطابات وتقلّ التضحيات، صار البرغوثي دليلاً حيّاً على أن القيادة ليست امتيازاً بل مسؤولية، وأن السياسة إن لم تتكئ على الأخلاق تتحوّل إلى إدارة خسائر لا أكثر.

وطنياً، يُقرأ مروان البرغوثي بوصفه ضميراً يقظاً داخل الزنزانة الفلسطينية الكبرى. لم يتخلّ عن لغة الوحدة، ولم ينجرّ إلى خطاب الكراهية، بل ظلّ يؤمن أن الانقسام أخطر من السجن، وأن الاحتلال يراهن دائماً على تشتيت الإرادة قبل كسرها. من خلف القضبان، ظلّ صوته يدعو إلى رأب الصدع، وإلى إعادة الاعتبار للمشروع الوطني، وإلى بناء مستقبل لا يُقصي أحداً. كأن السجن علّمه أن الجدران حين تتكاثر تضيق الحياة، وأن الهامش الوحيد للتنفس هو التوافق والالتقاء على الثوابت الكبرى.

إن القيمة الحقيقية لتجربة البرغوثي لا تكمن فقط في معاناته، بل في طريقته في تحويل هذه المعاناة إلى طاقة أخلاقية. لم يسمح للأسر أن يتحوّل إلى حالة استجداء أو إلى خطاب ضحية، بل جعله فضاءً لإنتاج المعنى. وهذا ما يربك السجّان دائماً: أن يواجه أسيراً لا يطلب الشفقة، بل يطالب بالعدالة، ولا يتوسّل الحرية، بل يؤكّد استحقاقها. في هذا المعنى، يصبح مروان البرغوثي أكثر من أسير سياسي؛ يصبح فكرة حية، قابلة للانتقال من جيل إلى جيل، ومن زنزانة إلى شارع، ومن كتاب إلى ضمير.

أدبياً، يكتب البرغوثي بلغة مشبعة بالتجربة، لا تتزيّن بالمجاز بقدر ما تنبثق منه. حين يتحدّث عن الشمس، لا يفعل ذلك بوصفها عنصراً جمالياً، بل بوصفها شاهداً، وحين يذكر السماء، فهو لا يصف لونها فقط، بل يذكّر بأن هناك عالماً أوسع من الجدران. هذه اللغة، البسيطة في ظاهرها، العميقة في جوهرها، تجعل نصّه قريباً من القارئ، لأن الألم حين يُكتب بصدق يتحوّل إلى جسر، لا إلى جدار.

في السياق الإنساني الأوسع، تمثّل تجربة مروان البرغوثي سؤالاً موجّهاً إلى العالم: ماذا تفعلون بالحرية حين تُسجن؟ هل تتحوّل إلى شعار، أم إلى مسؤولية؟ هو لا يطلب من العالم أن يبكي عليه، بل أن يفهم قضيته، وأن يرى في قصته مرآة لكل المظلومين. لذلك تجاوز حضوره حدود فلسطين، وصار اسمه يتردّد في المحافل الحقوقية، وفي النقاشات الفكرية حول معنى العدالة والمقاومة، وحول قدرة الإنسان على الصمود دون أن يفقد إنسانيته.

ليس من السهل أن تكتب عن رجل ما يزال في الأسر دون أن تقع في فخ الرثاء أو التمجيد الفارغ، لكن مروان البرغوثي يفرض كتابة مختلفة، كتابة تعترف بألمه دون أن تختزله فيه، وتحتفي بصموده دون أن تحوّله إلى تمثال. هو حيّ في نضاله، حاضر في فكره، ومفتوح على المستقبل، كأن السجن لم يوقف الزمن عنده، بل أعاد شحنه بمعنى أعمق. ولذلك، فإن الحديث عنه ليس استذكاراً للماضي، بل استشرافاً لما يمكن أن تكون عليه القيادة حين تخرج من رحم المعاناة نظيفة اليد، واضحة البوصلة.

في النهاية، يبقى مروان البرغوثي درساً مفتوحاً: أن الحرية لا تُقاس بعدد الأمتار التي نتحرّك فيها، بل بقدرتنا على الحفاظ على المعنى، وأن الشمس قد تُحجب، لكنها لا تُلغى، وأن من يتعلّم مواعيدها من زنزانة، قادر على أن يعلّم شعباً كاملاً مواعيد الأمل. هو ابن الضوء الذي لم ينطفئ، وابن الزنزانة التي فشلت في تحويله إلى رقم، وابن فلسطين التي تعرف جيداً أن أسماء كهذه لا تُسجن، بل تُختبر، وكلما طال الاختبار، ازداد الاسم رسوخاً في الذاكرة، وأشدّ التصاقاً بالحلم الذي لا يزال، رغم كل شيء، مفتوحاً على السماء.