لم تعد الضفة الفلسطينية تعيش تصعيدًا عابرًا، بل تدخل طورًا جديدًا من القوة المفتوحة بلا سقف، حيث تُدار الجغرافيا بالنار، ويُعاد رسم الواقع على حساب المدنيين.
منذ بدء العملية العسكرية الإسرائيلية الأخيرة، تحولت مدن ومخيمات بأكملها إلى ساحات اقتحام دائمة، تُغلق فيها الطرق، تُهدم المنازل، ويُدفع السكان إلى النزوح القسري، فيما تتراكم الأرقام كدليل دامغ على سياسة ميدانية تتجاوز منطق الأمن إلى منطق الإخضاع.
ما يجري اليوم في الضفة لا يمكن فصله عن سياق أوسع من تفكيك الحياة اليومية، كسر المجتمع، وتطبيع الانتهاك، وسط صمت دولي يكتفي بالتعبير عن "القلق" بينما تتغير الوقائع على الأرض بسرعة السلاح.
عمليات ميدانية وارتفاع في عدد الشهداء
قالت مصادر طبية فلسطينية إن عددًا من الفلسطينيين قُتلوا خلال الاقتحامات والاشتباكات المرتبطة بالعمليات العسكرية، بينهم مدنيون، فيما أُصيب آخرون خلال عمليات إطلاق نار وغارات محدودة باستخدام طائرات مسيّرة.
وذكرت منظمات حقوقية أن القوات الإسرائيلية نفذت مداهمات ليلية واسعة، شملت محاصرة أحياء سكنية، وإخلاء منازل بالقوة، وتحويل مبانٍ مدنية إلى نقاط عسكرية مؤقتة، ما أدى إلى أضرار جسيمة في الممتلكات الخاصة.
من جانبها، تقول إسرائيل إن عملياتها تهدف إلى "مواجهة تهديدات أمنية"، مؤكدة أنها تستهدف مسلحين وبنى تحتية عسكرية، وتنفي استهداف المدنيين عمدًا.
اعتقالات جماعية وتحويل مدن كاملة إلى مناطق عسكرية
كما أعلنت مؤسسات حقوقية فلسطينية أن آلاف الفلسطينيين اعتُقلوا منذ بدء العملية، من بينهم أطفال ونساء، خلال حملات دهم واسعة شملت مدنًا وبلدات مختلفة في الضفة الغربية.
وأضافت أن نسبة كبيرة من المعتقلين خضعوا لإجراءات الاعتقال الإداري، الذي يتيح احتجاز الأفراد لفترات طويلة دون توجيه تهم أو محاكمة، وهو ما أثار انتقادات متكررة من منظمات حقوق الإنسان الدولية.
نزوح داخلي واسع وتدمير للبنية التحتية
قال مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) إن العمليات العسكرية أدت إلى نزوح داخلي واسع النطاق، خصوصًا في مخيمات اللاجئين، حيث مُنعت عائلات فلسطينية من العودة إلى منازلها بعد تدميرها أو تضررها بشكل كبير.
وأضاف المكتب أن تدمير شبكات المياه والكهرباء والطرق، إلى جانب إغلاق المداخل الرئيسية، فاقم من معاناة السكان، وقيّد وصولهم إلى الخدمات الأساسية، بما في ذلك الرعاية الصحية والتعليم.
تصاعد هجمات المستوطنين وسط غياب المساءلة
بالتوازي مع العمليات العسكرية، وثّقت الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية ارتفاعًا ملحوظًا في هجمات المستوطنين الإسرائيليين ضد القرى الفلسطينية، شملت إحراق ممتلكات، وتخريب أراضٍ زراعية، واعتداءات جسدية.
وأشارت تقارير أممية إلى أن عددًا من هذه الهجمات وقع بحضور القوات الإسرائيلية أو دون تدخل منها، ما أثار انتقادات حادة بشأن غياب المساءلة.
وقالت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان إن استمرار هذه الهجمات “يخلق بيئة قسرية” تدفع السكان الفلسطينيين إلى مغادرة مناطقهم.
الأمم المتحدة: خطر تدهور إنساني واسع
حذّرت منظمات حقوق الإنسان من أن ممارسات مثل التهجير القسري، وهدم المنازل، واستخدام القوة المميتة قد تشكل انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني، وقد ترقى إلى جرائم حرب إذا ثبت أنها نُفذت بشكل ممنهج.
ودعت الأمم المتحدة إلى وقف الإجراءات التي تؤدي إلى تهجير السكان، وضمان حماية المدنيين، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية دون عوائق، مشددة على ضرورة احترام القانون الدولي في الأراضي المحتلة.
مشهد مفتوح على مزيد من التصعيد
يحذّر محللون من أن استمرار العمليات العسكرية، إلى جانب تصاعد عنف المستوطنين والقيود المفروضة على الحركة والحياة اليومية، قد يؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار في الضفة الغربية، في وقت يشهد فيه الإقليم توترات متزايدة.
ومع غياب أي أفق سياسي واضح، تبقى الضفة الفلسطينية أمام مشهد مفتوح على مزيد من التصعيد، فيما تتزايد الدعوات الدولية لاتخاذ خطوات عاجلة تحول دون تفاقم الأزمة الإنسانية.
في المحصلة، تكشف الوقائع الميدانية في الضفة الفلسطينية عن مشهد يتجاوز حدود التصعيد العسكري، إلى واقع تُدار فيه الأراضي المحتلة كمساحة بلا حماية قانونية حقيقية، وبلا محاسبة فعلية.
الأرقام لا تروي قصة اشتباكات فقط، بل تحكي عن حياة تُجرف تدريجيًا، منازل تُمحى، عائلات تُهجّر، ومدن تُحاصر حتى الاختناق.
ومع استمرار العمليات، وتزايد عنف المستوطنين، وتآكل أي أفق سياسي، تقترب الضفة من نقطة يصعب معها احتواء التداعيات.
ويبقى السؤال معلقًا أمام المجتمع الدولي
هل ستبقى التقارير والتحذيرات حبرًا على ورق، أم أن ما يجري اليوم سيُسجَّل كنقطة انهيار جديدة للقانون الدولي في الأراضي المحتلة؟