من بغداد إلى غزة… حين يُسقِط الدمُ أوراقَ توني بلير
نشر بتاريخ: 2025/12/10 (آخر تحديث: 2025/12/10 الساعة: 14:19)

سرد تاريخي وتحليل سياسي لقرار استبعاد مهندس الحروب من «مجلس السلام»

ليس استبعاد توني بلير من «مجلس السلام» في غزة تفصيلاً إجرائيًا ولا زلة دبلوماسية عابرة؛ بل هو حكمٌ تاريخي متأخر، أصدرته ذاكرة المنطقة قبل أن تُصادِق عليه السياسة. فالرجل الذي حاول دخول غزة بعباءة «السلام» اصطدم بجدارٍ من الدم لم يَجِفّ بعد، وبمدنٍ ما زالت تُحصي قتلاها منذ بغداد.

دمٌ في السيرة لا تُمحِيه الخُطب

منذ عام 2003، حين اصطفّ بلير خلف جورج بوش في غزو العراق، كُتِب اسمه في سجلّ الدموية السياسية. لم يكن تابعًا ولا مُكرَهًا؛ كان شريكًا كاملاً في حربٍ قامت على أكذوبة «أسلحة الدمار الشامل»، وانتهت بتدمير دولة وتشريد شعب وفتح أبواب المنطقة على فوضى ما زالت تتوالد.

في العراق لم يُعرَف بلير كـ«رجل دولة»، بل كمهندس قرارٍ دموي خلّف مئات الآلاف من الضحايا، ودولةً مفككة، ونسيجًا اجتماعيًا ممزقًا، وتنظيمات متطرفة نمت من رحم الفوضى. تلك الدماء أصبحت بطاقة تعريفه الأولى في الشرق الأوسط.

من صناعة الحرب إلى صناعة الوهم

بعد خروجه من رئاسة الحكومة، أعاد بلير تقديم نفسه وسيطًا ثم مبعوثًا لـ«اللجنة الرباعية». لكن الفلسطينيين لم يروه يومًا وسيطًا نزيهًا. كان، في نظرهم، أقرب إلى محامٍ لسياسات الاحتلال، بارعًا في لغة «الفرص الاقتصادية» بينما الأرض تُصادَر وغزة تُخنق والقدس تُختطف.

السلام، في قاموس بلير، لم يكن عدالة أو حقوقًا؛ كان إدارة أزمة وتطويع ضحية وتدوير احتلالٍ بلغة ناعمة.

غزة… الذاكرة التي لا تُخدَع

حين طُرح اسم بلير كعضو محتمل في «مجلس السلام» لإدارة غزة، بدا الأمر كأنه إهانة مفتوحة:

كيف لمن دعم تدمير بغداد أن يُكلَّف بإعادة بناء غزة؟

كيف لمَن شرعن الحرب أن يرأس مرحلة «سلام»؟

اعتراض الدول العربية والإسلامية لم يكن انفعالًا عابرًا، بل موقفًا سياسيًا وأخلاقيًا. فغزة الخارجة من حرب إبادة لا تحتمل رموزًا ارتبطت بتاريخ من الدم، ولا تقبل أوصياء جرّبوا «السلام» على جثث الآخرين.

بلير وترامب… لغة واحدة بثياب مختلفة

وصف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بلير بأنه «رجل جيد جدًا»، فيما وصف بلير خطة ترامب بأنها «جريئة وذكية». هذا الانسجام ليس جديدًا؛ فالمدرسة واحدة: حلول فوقية، مجالس مُعيّنة، ورسم مصائر الشعوب من خارج إرادتها.

لكن اعتراف ترامب المسبق بإمكانية رفض بلير يكشف إدراكًا متأخرًا لحقيقة واضحة: غزة ليست مختبرًا سياسيًا، والفلسطينيون ليسوا مادة تجارب.

مجلس بلا شرعية إن تجاهلَ أصحاب الأرض

«مجلس السلام» المقترح، بتفويض أممي وقوة استقرار دولية، قد يبدو إطارًا إداريًا، لكنه من دون قبول الشعب الفلسطيني يتحول إلى صيغة فوقية لإدارة الأزمة لا لحلها. وكان وجود شخصية مثقلة بسجلّ دموي كبلير سيعني تهميش الفلسطينيين منذ البداية.

الخلاصة: سقوط الرمز لا سقوط الفكرة

استبعاد توني بلير ليس انتصارًا سياسيًا فحسب، بل استعادة لشيءٍ من كرامة الذاكرة.

إنه تذكير بأن السلام لا يُدار بعقول صاغت الحروب، ولا يُبنى بأيدٍ لوّثها الدم.

غزة لا تريد «رجالًا جيدين جدًا» في نظر واشنطن؛ بل وجوهًا نظيفة، تسمع قبل أن تُقرّر، وتحترم الحق قبل أن ترسم الخرائط.

ومن بغداد إلى غزة، سقطت محاولة تبييض السيرة.

فالتاريخ، مهما تأخر، لا ينسى.