نشر بتاريخ: 2025/12/14 ( آخر تحديث: 2025/12/14 الساعة: 17:32 )
بهاء رحال

مواقد الصبر الأخيرة

نشر بتاريخ: 2025/12/14 (آخر تحديث: 2025/12/14 الساعة: 17:32)

الكوفية تقول السيدة العجوز التي جاوزت السبعين من عمرها، وصبرها، وهي تقف على أرضٍ غرقت بالماء وطين الحال: نجمع بقايا الأخشاب (الحطب) لنشعل نارًا نطهو عليها طعامنا، الذي هو عبارة عن شوربات بقولية، لنسكت خواء أمعائنا وأمعاء صغارنا، ويبقوا على قيد الحياة.

الحطب هو الوسيلة الوحيدة لإشعال النار في غزة منذ بدأت حرب الإبادة، فلا يوجد غاز للطبخ ولا كهرباء، وحدها مواقد النار ترفق بحالنا وتعيننا على التغلب على هذه الصعاب. جاء المنخفض الجوي ولم يترك لنا خشبة واحدة نغلي عليها إبريق شاي.

الأخشاب في غزة لها عدة استعمالات، واحدة من تلك الاستعمالات التي طرأت هي إشعال النار في المواقد، أما الأخشاب التي تكون بحالة جيدة فهي تُستخدم لتمتين وتمكين الخيام من الوقوف، فترفع عليها الخيمة، وفي هذا المنخفض تحطمت الكثير من الأخشاب وتطايرت الخيام، وهذا يعني أن الأخشاب التي تكسرت تحولت إلى حطب ينتظر إشعاله بعد أن يجف من ماء المطر.

إنها بعض ملامح غزة بعد الإبادة التي تعرضت لها خلال عامين كاملين، لم تُبقِ على شيء، وسط حصار مستمر لم ينتهِ وإن كان أخف قليلًا، إلا أن الكثير من الاحتياجات الضرورية لا تدخل القطاع ولا يُسمح بدخولها. عدنا إلى ما قبل العصور البدائية، يقول الشاب الباحث عن مأوى لوالدته التي لا تقوى على المشي، فحملها بعد أن دخلت المياه إلى خيمتهم، وأخذ يبحث عن ملجأ لوالدته العجوز، وهو يمسك بصبر عظيم ويشكو واقع الحال.

بين الموت بردًا والموت قصفًا أو جوعًا، تتعدد صور الموت، وكأن أمل النجاة بات مفقودًا في ظل استمرار تعنت الاحتلال وعدم سماحه بدخول البيوت المتنقلة والمساعدات ضمن الحاجات الملحّة، بل يواصل منعه دخول الكميات الكافية والضرورية، ويعجز العالم عن إدخال ما يلزم.

حياة الناس في غزة ليست حياة تصلح للبشر، وقدرتهم على الاحتمال بفعل الاضطرار القسري، وبأكثر درجات الصبر، هي نموذج واضح لرفض التهجير ورفض الوصاية ورغبة جامحة بالحياة الكريمة التي يستحقها الناس الذين نجوا من ويلات الإبادة. وهذا امتحان آخر للعدالة الدولية وصوت الإنسانية، لعله هذه المرة ينهض ويصحو وينتصر للضحية التي تنتظر تدخلًا عالميًا إنسانيًا سريعًا وعاجلًا.

حتى مواقد الحطب في غزة أطفئت بفعل المنخفض الجوي وكمية الأمطار التي أغرقت كل شيء، ليتجرع الناس المزيد من البؤس وهلاك الواقع والحال الصعب بل المستحيل في ظل صمت المجتمع الدولي الآثم.