نشر بتاريخ: 2021/06/25 ( آخر تحديث: 2021/06/25 الساعة: 05:24 )
محمد أحمد عابدين *

"العامية المصرية".. لغة أم لهجة؟!

نشر بتاريخ: 2021/06/25 (آخر تحديث: 2021/06/25 الساعة: 05:24)

لكل لغة سياقان، أو مساران أحدهما منطوق أو صوتي والآخر مكتوب، ولا يعني أن الكتابة في كل دولة فيما يُعرف باللغة الرسمية تكون هي اللغة، بينما ما يتحدث به الناس مما يسمى العامية يكون لهجة.
فهذا خطا تاريخي، عندما يقال إن العرب لهم لغة واحدة ينطقها المواطنون في 22 دولة عربية هي "اللغة العربية" بينما هناك 22 لهجة.
إذن هي لغة واحدة و22 لهجة وهذا الخطأ يمكن تسميته في سياق الطب النفسي "انفصام لغوي" بين اللسان واليد، مثلما نقول انفصام في الشخصية

مصريًا.. يوجد توجه لأحد التيارات الفكرية هو "تيار القومية المصرية"، يؤكد أن العامية المصرية لغة وليست لهجة وهذا يدعونا إلى التفرقة بين اللغة واللهجة عموما.
يرى البعض وهو كثير جدا بالمناسبة، وتحديدا الغالبية العظمى أن اللغة هي وسيلة الكتابة في المحررات الرسمية والمصنفات الإبداعية والكتابة الإلكترونية، وهي كل ما نراه مكتوبا في واقع الحياة وينطق في المناسبات الرسمية أو الفعاليات المختلفة.

بينما اللهجة هي ما يدور على ألسنة الناس كلغة تخاطب يومية، والحقيقة تبدو غير ذلك، حيث جرت محاولات عديدة لصياغة قواعد للعامية المصرية لكن لم يكتب لهذه المحاولات الانتشار لأسباب عديدة، لعل أهمها من وجهة نظري تسامح الشعب المصري مع كل وارد إليه من ثقافات وبشر، حيث يتبادل معه، بالأخذ والعطاء، الأفكار والمخترعات وكل ما يستخدم في الحياة حتى الكلمات والجمل والتراكيب.
كباحث لغوي وتراثي، أرى أن العامية المصرية هي بكل امتياز وجدارة "لغة" وليست "لهجة"، فالسياق العام بين المتعلمين والمثقفين وأهل اللغة، يرى للغة الجدارة على اللهجة وأن اللهجة بحكم أنها مشتقة من اللغة، فاللغة أصل واللهجة فرع ومن هنا بني الكثيرون آراءهم وكونوا عقيدتهم
اللغوية على أن العربية لغة والعامية المصرية لهجة، وهذه مغالطة بشعة، تستحق أن نصفها بـ"خطأ تاريخي" وجب تصحيحه، وهذه  أدلة من دراساتي التي قمت بها في هذا السياق:

الدليل الأول

كان في مصر القديمة ثلاث لغات "الهيروغليفية والهيراطيقية  والديموطيقية"، كلغات مدونة ومتخاطب بها بين أهل ذاك الزمان البعيد قبل أن يأتي الفتح العربي الإسلامي إلى مصر، وهذا يمنحها الأصالة في كونها لغات لها قواعدها المكتوبة والمنطوقة التي يتم التعامل بها.

الدليل الثاني:

لا زال أبناء الشعب المصري يتحدثون لغة أجدادهم القدماء منذ ما قبل الفتح العربي الإسلامي ممزوجة باللغة العربية التي جاءتهم مع الفتح وصنعوا منها لغة للتخاطب، اختلط فيها المصري بالعربي وبلغات أخرى أيضا ليست فقط لغات من احتل مصر بل أيضا من تاجر مع الشعب المصري ومن أقام مع المصريين علاقات اجتماعية من أي نوع.

الدليل الثالث:

إمكانية استنتاج قواعد تسير عليها العامية المصرية، أذكر بعض ما قمت باستنتاجه من لغة الحديث اليومي، وما قام به باحثون آخرون من استنتاجات ومن الأمثلة على ذلك: استخدام حرف "ش" في النفي لبعض الكلمات والجمل مثل "مفيش" وكلمة "ما عدتش"، أي ما عدت أفعل ذلك، وكذلك ما "قلتش ما عملتش ما كتبتش ما أكلتش ما نمتش"، إلى آخره.
وكذلك وجود حرف "باء" في أول بعض الكلمات للدلالة على الاستمرار الذي يقابل في الإنجليزية ing في كلمات مثل "بالعب باكتب بامشي بانام"، واستخدام حرف "ش" في كلمات الاستفهام مثل "إيش" وهي استفهام مثبت جوابه "نعم" أو "لا"، وكلمة "إيش " مستخدمة في دول عربية كثيرة .
وكذلك في السؤال المنفي في الفصحى والذي جوابه بالإثبات "بلى"

وبالنفي "نعم".

الدليل الرابع:

توسيع مبدأ الاشتقاق من الكلمة الواحدة، مما يؤكد قطعا باعتبار العامية المصرية لغة وليست لهجة ومن أمثلة ذلك أسماء الإشارة مثل "هذا"، قامت العامية المصرية بحذفين حيث حذفت حرفي الهاء والذال واستبدلت بالذال الدال وأخفت الهاء فأصبحت "هذا" آخر الأمر"دا" واشتق منها "ده" و"دهون" و"دهوت" و"دكهوا" و"دكهون" و"دكهويتي"، إلخ.  

الدليل الخامس:
احتفاظ المصريين المحدَثين بموروثات مصحوبة بتراكيبها اللغوية، عدا تراكيب لغوية بدون موروثات مثل، "وحوي يا وحوي"، عند الاحتفال بقدوم شهر رمضان.

الدليل السادس:

دخول١٣٥٠٠ كلمة مصرية قديمة إلى نسيج العربية الفصحى حسب عد شخص واحد هو الدكتور أحمد كمال باشا أول رئيس مصري للمتحف المصري كما عد تلاميذه حوالي ١٣٠ ألف كلمة أخرى.

الدليل السابع:

التطور اللغوي، حيث تم صك مفردات جديدة في العامية لا توجد بكثرة في الفصحى، ومنها "مزة" وتراكيب مثل "انزل من على وداني" و"انزل من على المسرح يا نجم" و"أتوبيس راجع بضهره" "احلق له" أي اصرفه بعيدا.
وختامًا:
ما طرحناه هنا قليل جدا من كثير، جدا يثبت أن العامية المصرية لغة وليست لهجة، فاللهجة إذا كانت فرعا فاضت عليه اللغة بمفرداتها وتراكيبها وصورها، بينما نحن نرى العكس حيث فاضت العامية المصرية على العربية الفصحى، كما أوضحنا بمفردات وتراكيب كثيرة حتى إن علم "غريب القرآن" ذكر مفردات كثيرة وردت في القرآن الكريم من أصل مصري قديم، مثل "ماعون" أي زكاة أو عطاء للمحتاج، وكلمة "طه" قال بعض العلماء إنها كلمة "طأ" ومعناها في المصرية القديمة "يا رجل"، وبهذا فهي ليست اسم الرسول صلى الله عليه وسلم، كما أن كلمة دين هي كلمة مصرية قديمة معناها "خمسة" وتشير إلى "العقيدة" المصرية القديمة المتمثلة في شهادة التوحيد لله سبحانه وتعالى والصلاة والصيام والزكاة والحج.
كما ذكر علماء اللغة المصرية القديمة، أن 15 حرفا من حروف المصرية القديمة دخلت على العربية لتمثل أكثر من نصف حروف الأبجدية العربية، وأشهر هذه الحروف "نون" و"هاء" و"راء".

*كاتب وباحث مصري