لم نتخل يوماً عن رهاننا على شعبنا في الضفة، وكنا دائماً نتفهم المصاعب والظروف التي تواجه هذا الشعب النبيل، في المدن والقرى والمخيمات الباسلة. ونحن على يقين، بأن المشاركين في التظاهرة احتجاجاً على استهداف غزة وسكانها؛ يختزلون كل المشاعر الوطنية التي تختلج في قلوب جميع الفلسطينيين في الوطن والشتات. ونعلم أن عوامل عدة، منها الانتشار السكاني في طول وعرض خارطة الضفة، والمناخات المحبطة التي جعلت أية احتشادات فيها معرضة للعرقلة، حتى أصبح التظاهر في مستديرة المنارة والشوارع المؤدية اليها محدوداً في العادة. لكن الأمر في هذه التظاهرة، تخطي حدود الإعتيادية، وجاءت الصرخة قوية ومهمة وكاشفة، على الرغم من القبضة الأمنية الغاشمة، والملاحقات والاعتقالات وقطع الأرزاق!
لقد أسمعت تظاهرة الأمس، الصُم البُكم، الذين لا يستمعون لنداءات العقل والمنطق، وأسمعت البُكم العاجزين عن الكلام، الذي ابتلعوا ألسنتهم وكابدوا قناعاتهم لكي تظل حبيسة في دواخلهم، وأسمعت أيضاً حفنة العناصر المناطقية الضالة، التي سعت الى تطوير ثقافة روابط القرى المناطقية، وتحقيق أهداف العدو الذي لا يزال ماضياً في عملية استبدال عناصر الشريحة السياسية الفلسطينية الموصولة بتاريخ الثورة والحركة الوطنية، بعناصر لا علاقة لها تاريخياً بسياقات النضال الفلسطيني الحقيقي المعاصر، مع حفنة من متصدري فصائل ميكروسكوبية، ليست لها أي بُعد إجتماعي.
مركزية عباس، لاذت الى الصمت ولم يُسمع لها صوت. وسكت الناطقون باسم الزمن الفتحاوي الرديىء. ولعل من محاسن ردود الأفعال القليلة الشائنة، التي سُمعت وحاولت النيل من مقاصد التظاهرة، أنها جاءت لكي تحث على المزيد من التظاهر، إذ تعززت بتأثير النطق الشائن، قناعة الناس بانحراف الحكم الذي يستند محسوبون عليه، الى منطق اتهام الجماهير بالضلال ووصف تظاهرتها بأنها مشبوهة. فقد أرادت عناصر هذه الحفنة التي لا يزيد عددها عن نصف عدد أصابع اليد الواحدة، تسفيه نداءات إنهاء الإنقسام والتاكيد على أن الفلسطينيين شعب واحد لا شعبين، وأن غزة لا يصح أن تجوع. وكأن المشبوهين والمتربصين لشعب فلسطين، فقدوا عقولهم لكي يحثوا الجماهير الفلسطينية، على المطالبة بالوحدة وبرفع الضيم عن مليوني فلسطيني في غزة، لا زالوا يواجهون الإحتلال بصدورهم العارية. إن هذه القلة من المرضى النفسيين، تضيف الى العديد من مطالب الجماهير، مطلباً ضمنياً، وهو إعادة مثل هذه العناصر الكريهة، التي لا يتقبل الشعب سحناتها، الى شرانقها الموبوءة ومناخاتها. فمن سنن الحياة وطبائع السياسة، أن تكون ألسنة الناس أقلام الحق، فلا اشتباه في حركة الجماهير، ولا قدرة لأي حُكم فاجر، على إعطاب ضمائر الناس أو تعمية عيونها!
الفلسطينيون في الضفة، انحازوا الى تاريخ نضالات شهدائهم، واستذكروا سنوات الإنتفاضات المتتالية التي ظلت تتكامل أثناءها المدن والقرى والمخيمات في كل أرجاء وطننا، دون أـن تتخلف عن المشاركة، بالوسائل المتاحة، المدن والقرى في الأراضي المحتلة في العام 1948.
ومن دواعي الأسف، أن صرخة الأمس، جاءت في وجه الحُكم الفلسطيني وهذا ما لم نكن نتوقعه في أسوأ الكوابيس. لكن ما يفعله هذا الحُكم في غزة، أصبح يمثل شكلاً فادحاً ومخزياً من أشكال التساوق مع العدو. فقد أخطأ حُكم عباس، في قراءة دواخل الوجدان في الضفة، عندما ظن أن شعبنا فيها قد تقبل الخضوع، علماً بأن هذه الضفة تغلي، وليس أدل على غليانها من فيض الغضب الشبابي، الذي عبرت عنه موجة الطعن والدهس التي شهدناها في العامين الماضيين. فقد كان أبناؤنا وفتياتنا الذين قضوا في سياق تلك الموجة، يعرفون أنهم ذاهبون الى الشهادة، ويعرفون أن الفصائل لن تجرؤ على تبني عمليات انقضاضهم على جنود مدججين بالسلاح، ويدركون أن هذه الفصائل، لن تقيم لهم مجالس العزاء، بل إن احتمال إدانة أعمالهم بلسان عباس قائمٌ، لكنهم تقدموا بجسارة، وصنعوا الموجة دون تنظيمات ودون خطط مسبقة ودون وجود ألوية عسكرية، من عاملين ومتقاعدين ومُقعدين!
إن ما استحث الجماهير الفلسطينية التي سجلت تظاهرتها المعبرة في رام الله، وحيثما يتكثف الإحباط، هو كون عباس ومجموعته، أطاحوا أو نحروا أعز وأنبل ما تتميز به حركة التحرر الفلسطينية في جوهرها: تنسيق أمني مع الاحتلال يمضي في خط مواز لسياسة الاحتلال التي تحتقر السلطة وتتعدى على شعبنا ومقدراتنا في كل يوم، وطمس الثقافة الوطنية وتعويم الغوغائيين وذوي الثرثرات الغبية، وحرمان الشعب من العدالة وحرية الرأي والتنمية، ومن مغادرة مربع الإرتهان لاقتصاد الاحتلال، والعجز عن رفع مسألة الانتهاكات الإسرائيلية اليومية والاجتياحات ومداهمة المنارل حتى في قلب رام الله؛ الى مستوى القضايا السياسية التي تطرح بقوة في اللقاءات الدولية. فكأن بساط عباس الأحمر وموسيقاه التي تُعزف، كلما استقبل زائراً، تُغني عن الدفاع بضراوة عن كرامة الشعب الفلسطيني وعن حصانته ولو بشفاعة العملية السياسية التي بدأت وانقلب عليها العدو، ولم يتبق منها سوى بساط عباس الأحمر!
ليس أسوأ من أعراض محنة غزة، التي دفعت الجماهير الى الساحة، سوى ذرائعها السخيفة بلسان عباس. كان من الضرورة بمكان، أن يسمع الفاجر رأي الجماهير الشعبية في الوطن والشتات، وأن يعلم أن الفلسطينيين جسد واحد، إن اشتكى منه عضو، تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحُمّى!