يستبد بها الألم، ويحاصرها الجاحدون، وتستعر عليها نيران الحقد، لكنها تظل غزة الباسلة، التي تحمل القدس بين جوانحها. تتجاوز حزنها، وترتب في خَدْرِها الطاهر، قبل شروق كل يوم، أحلامها صورة صورة!
ليست القدس رسماً معلقاً على الجدران، لكي يراه الزائرون، وإنما هي الدم الذي يسري في العروق، بدَفقٍ وزخمٍ لا يجاريه سريان الجهل والجنون الأمريكي في مسارات التاريخ. هي زهرة المدائن ومُهجة الروح ومسرح الشبان الغاضبين ومهوى أفئدة الأبطال الميامين.
مشهد غزة اليوم، يفك الطلاسم، ويعرض قراءاتها لكل الذين تبلّدت عقولهم وتحجرت ضمائرهم. الحشود وصرخات الحناجر وهمم الشباب والساحات الحمراء المُضمّخة بالدم، تفضح اللئام الأذلة الصاغرين، من الأقربين والأبعدين، وتُربك العدو الذي يقصف ويقنص ويدمر. إن مشهد غزة الغامر، يرسم علامة انتهاء صلاحية من يحاصرون الشرفاء الصابرين. فهؤلاء المسموون منذ بدء تعبئتهم في قفص أوسلو؛ لن يطالوا ذرى النخيل العالي الذي لا تهزه الأعاصير.
في بركان غزة الكريمة التي لا تُهان وهي تتأبط كرامة الأمة؛ يحمل الناس رايات فلسطين والأقصى في قلبها، وتتبدى "حطين" مرآة الأمس، فتهون على الفتى كل المصائب إلا ضياع حُبّه الخالد لوطنه وعشق القدس!
يحق لغزة أن تتفاءل بأقدارها القادمة، مهما عَبرت الأحزان وتوالت. فالمحبة والسلام قادمان الى القدس، حسب شاعرنا محمود درويش، في قصيدة يوجه الينا فيها سؤاليْن بلسان الجندية الإسرائيلية: أمن حجرٍ شحيح الضوْء، تندلع الحروب؟ هو أنتَ ثانيةً.. ألم أقتلك؟ ويجيب الفلسطيني بمروءته: قتَلتِني ونسيت مِثلُكِ أن أموت!
في مختبر السياسة، لا وسيلة لقمع نزعة المسلوب والمُحاصر الى النحرر، ولا تصويب لواقع اللجوء بغير العودة، ولا جواب على الخذلان إلا بالهدير والحراك الشعبي الحاشد. ولا يقظة للمارد الفلسطيني في الضفة، إلا بقص ذيول الثغالب وانتزاع أسنانها، لكي لا يظل التنسيق الأمني ينافس القدس على قداستها!
في مختبر السياسة، تقدم الجماهير في غزة، درساً بليغاً للجاهل الحقود المتواطيء، الذي لم يتعلم حرفاً واحداً عن البُعد الاجتماعي للسياسة نفسها، فاستمرأ التجويع والإقصاء والكذب والوقاحة. فقبل أن يقتاده الفلسطينيون الى محكمة التاريخ، سيحكم عليه العدو نفسه، بالحكم الذي يُمنى به الصديق الغبي، الذي يتسبب في إيلام صاحبه دون أن يدري. فمن غير نتنياهو ومن معه، وعباس ومن معه، الذين دفعوا الناس الى العودة بكل قوة الى أصل الحكاية؟ كانت أفاعيل المسكونين بالرِهاب والرُعاش، هي التي أحبطت الجماهير التي ارتضت بعض الحق لكي تحيا به. طرفٌ تمادى في العدوان ونكران الحد الأدنى من الحق، والآخر تمادى في سرقة خبز الناس وتمادى في خنقها وتجويعها، فأنكر عليها حقها في أن تتنفس. وها هي الجماهير اليوم، تتمثل أشجار النخيل الساخرة من الأقزام والأغبياء، وينزرع الشهداء في الأرض، لكي تنبت من رفاتهم أشجار نخيل أخرى أعلى تحرس الذكرى ومُدركات القضية!
طوبى للجماهير الفلسطينية في يوم حشود القدس والعودة. طوبى لشهداء الحُلم والعزة والسمو الإنساني والبراءة، من الفتية الذين هزموا النسيان والطغيان والتلاشي، فحضروا في ساحات التذكير والهدير، ككابوس يقض مضاجع العدو أصل الشر، وذوي القربى صُناع الخذلان والعار.
الحرية والمجد للقدس التي حفظناها في القلوب والوصايا. العز والبهاء لمدننا الأبية في الضفة وريفنا الفلسطيني ولكل أرضنا التي تختزن الغضب الساطع. المجد لغزة وهي تقبض على الحلم كالقابض على الجمر، وتُذكّر بالذاكرة. الحرية لفلسطين التي تحيا وتبقى رُغماً عن الموت وصناع الهزيمة، والسلام على الأحباب الراحلين اليوم والذين رحلوا في الأمس!