في هذه اللُجّة، تتحمل حركة حماس في غزة مسؤولية كبرى، عن العجز الذي يتبدى، في مواجهة الطوفان العباسي، الذي يدفع اليه رئيس السلطة مع أداوته فاقدة الحساسية واحمرار الوجه خجلاً من أية شائنة. ويصح القول إن ما يهم هذه الحركة التي تسيطر على غزة، مسألتان تناور بهما وتراهما كافيتين لتحميل مسؤولية إحباط محاولات تحقيق الوحدة الفلسطينية لعباس وحده، دون أية ملامة عليها. إنهما مسألتا رواتب الموظفين التابعين لها، وسلاحها،. وللأسف، هي تعطي الإنطباع عن حرصها على المصالحة، دونما تغيير في طبائعها، تماماً مثلما يتحدث عباس عن حرصه على السلطة الواحدة، بينما هو يمضي في تسيير الأمور وفق طبائعه الإقصائية والمستهترة بالقانون وبالمؤسسات الدستورية وبالناس جميعاً!
ما يحتاجه الفلسطينيون في غزة، وهم الذين تلاحموا شعبياً وأسمعوا العالم هديرهم على حدود النقب في مسيرات الأرض والعودة؛ هو تلاحم القوى السياسية ورد الجميل الى الشعب، وفاءً للشهداء وللأخذ بمقتضيات العمل الوطني، وإنفاذ القانون وتخليق صيغة أخرى للإدارة الوطنية المؤقته لحياة المجتمع في غزة، بوسائل ومنهجية أخرى، تنفي تماماً كل ممارسات سلطة الأمر الواقع، وتنهي طوعاً كل مظاهر إنقلاب العام 2007، على أن تتفرغ النخب السياسية من كل الأطياف، لمواجهة طوفان عباس وأدواته، الذي يستهدف غزة كلها بقضّها وقضيضها. فلا تملك حماس ولا غيرها، ترف العمل على تخليق الانطباعات التي ليست وراءها طبائع.
إن السياقات التدميرية للمشروع الوطني، تدخل الآن في طور التطبيقات العملية، للفصل الجغرافي، وعباس يتحدث علناً عن هذا الفصل ويتذرع بأن حماس هي التي تحكم في غزة، وإن لم تفعل ما يريد، فإنه سيعلن الفصل النهائي رسمياً. وبالطبع هو يعرف أن حماس لن تلبي له شروطه. أما الذي لا تعرفه حماس، فهو أن عباس لن يقبل غزة، حتى ولو جاءت السفن نفسها التي غادر على متنها مقاتلو الثورة الفلسطينية بيروت وطرابلس، لإجلاء الحمساويين جميعاً من غزة، فإن عباس سيفتش عن ذريعة أخرى. فهو الآن، يستخدم ذريعة كافية هي حكم حماس وسلاحها، لكي يحصل من الأمريكيين ومن الاحتلال ومن الإقليم كله، على الرضا عن هذا التفصيل من مسعاه. وهؤلاء جميعاً، سيؤيدون إنهاء حكم حماس ومحاصرة غزة بجريرتها من خلفية الرفض البات لأي حكم للإسلاميين، وهذه حقيقة أدركتها قيادة حماس في غزة وعملت في علاقاتها مع مصر، وفق إدراكها، لكنها في العلاقات الداخلية ومنهجية الحكم، ظل أمرها في حدود تخليق الانطباعات التي ليست وراءها طبائع!
في حديث سابق، ركزنا على ضرورة تغيير الخطاب الذي تستخدمه حماس في مواجهة عباس، على قاعدة أن غزة كلها هي المستهدفة، لأنها في الأصل وفي الفرع، ليس لها أية هويات مزورة. فقد ظلت طوال التاريخ فلسطينية، ويمثل بقاؤها بصفتها هذه، ضمانة الحفاظ على الهوية الفلسطينية العامة ورمزياتها. لذا، وجب على حماس، أن تدافع عن مصير غزة لا عن مصيرها وحده، بمشاركة الطيف الفلسطيني كله. وبكل أسف، لم يكن في خطابها وهي تقاوم عباس، أية مفردات من شأنها إعادة الاعتبار للوثيقة الدستورية والقانون والتفويض الشعبي، وهي المفردات نفسها التي تتطلب أولاً تغيير الطبائع، ثم تالياً إقناع الوسطاء والمتعاطفين مع الشعب الفلسطيني بوجاهة طرحها وبضلالة عباس. فالخطاب الوطني الشامل الذي يلجم عباس، ينبغي أن يتضمن كل المفردات التي يريدها الشعب الفلسطيني في الضفة وفي الشتات، بل إن هذه هي نفسها اللغة التي من شأنها كبح جماح قوة عباس الأمنية التي تنقضّ على منتسبي حماس و"حركة الجهاد الإسلامي" في الضفة، وتزج بهم في السجون وتمارس تعذيبهم كما يفعل المحتلون!
إن الاستنكاف عن تغيير المنهجية واللغة والطبائع، هو الذي يجعلنا في غزة، ننتظر جديد عباس في كل يوم يجلس فيه كما الحكام المتفردون، الذين يتوهمون أنهم امتلكوا حق عقاب الناس أو رفع السكين عن رقابهم، دون أن يقول قائل كلمة واحده عن انتهاكه الدستور والقوانين والتقاليد الوطنية!
الموالون لعباس، في غزة، يُعتبرون من زمرة المساكين المضطرين الى الرضوخ، دونما تفكير بالمتطلبات الدستورية للحكم. وفي حال ذهب عباس الى قطع أرزاقهم، فإن القيامة الصغرى ستقوم، ويصبح الكل سواء، دونما استثناء، وعند قيامها لن يجد الحزانى حاضنة كيانية طارئة تستوعب الجميع. فلا لجنة مؤقته ولا مؤسسة تشريعية ينهض بها أعضاء معارضون يطلقون النداء الإنقاذي لاستكمالها، ولا منبر، ولا عنواناً وفاقياً ذا دور وطني عام وذا تفويض، وسيصبح كل إنسان من سكان غزة، كما في يوم القيامة الكبرى، يحمل موازين أعماله، أمام قدير مقتدر، بينما عباس يواصل انتفاخه حتى انفجار المشروع الوطني والأمنيات كلها وفي المعيّة انفجار قفصه الصدري!