قوبلت الهبّة الشعبية في مسيرات العودة، بقراءة خاطئة من البعض الذي اعترض عليها وركز أخيراً على تفصيل الكاوتشوك. غير أن وقائع الاحتشاد، تحت إسم العودة الى أرضٍ ومنازل وحقول استُلبت من أصحابها، أصابت هدفها بدقة، وكان لدماء الشهداء الذين ارتقوا ثمناً كبيراً اقتطعه الشجعان الميامين، من مساحة التضليل الصهيوني للرأي العام في العالم، وهو ثمن لا نتحصل عليه في المعارك العسكرية. فما حدث، يشكل سابقة في المقاومة السلمية، لم ترتق اليها الصيغ السابقة لهذه المقاومة على صعيدي الحشد والدلالة، وبخاصة تلك التي عزفت عنها القيادات الفلسطينية نفسها التي تحدثت طويلاً عن المقاومة السلمية، وكذلك الفصائل التي جعلت المتطوعين الأجانب وجمعياتهم ومؤسسات الضمير العالمي، تتوفق عليها في الحشد الذي ظل محدوداً. وكان هناك في المجتمع الفلسطيني، للأسف، من انتقدوا بشدة الاحتشاد على الحدود في إهاب التقدم الى الأرض الذي نجح في تطيير الرسالة الى كافة الأطراف، وأعاد القضية الفلسطينية الى مشهد الإقتلاع من الأرض، وسجل الحضور المادي والمعنوي لمن اقتُلعوا، وأثبت للمرة الألف، وفي المرة الأهم، أن الكبار الذين ماتوا ويموتون، لن يتركوا أبناءً وأحفاداً ينسون!
في المحشر الغزي، وسط بحرٍ سياسي إقليمي ودولي عالي الموج، وفي هذه الحلقة الزمنية من التاريخ، يصنعون حدثاً من تلك الأحداث القليلة، التي تلخص تاريخاً طويلاً، وتعود بالأذهان الى بدايات واحدة من أهم وأقدم القضايا الراهنة على المسرح الدولي. فكل حدث يُقاس بمدى تأثر الطرف الباغي به، وبمدى انعاكاساته على العقل السياسي للقوى التي ساعدت على البغيْ، وبمدى إحراجه للأطراف التي يُفترض أنها ظلت تحمل راية القضية، لكنها أسقطتها من يدها وحساباتها وسياقاتها!
لا نبالغ في القول، إن البرقية القصيرة، المكثفة والموجزة، التي أرسلتها المسيرات، أكثر أهمية من عشرات المعارك الضارية، التي يخسر فيها العدو جنوداً مدججين بالسلاح. ذلك لأن البرقية القصيرة تطرح موضوعاً أريد له أن يُنسى، على الرغم من كونه يتعلق بقضية عادلة وإنسانية ومشهودة، تؤيدها حقائق التاريخ المعاصر، وشرعية الأمم المتحدة، وشواهد الحياة اليومية. فقد اضطر الحدث الى دفع الأمريكيين الى التأمل في أصل الحدث وجذوره. فهناك أناس إقتلعوا من بيوتهم وحقولهم، يريدون العودة اليها، وهذا منطق بات ولا منطق في الانتقاص من وجاهته. والأوربيون قرأوا الحدث فاستذكروا الظلم التاريخي، والإسرائيليون رأوا في الحدث تذكيراً بالفعلة الشائنة في العام 1948 وأعادتهم المسيرات الى نقطة الصفر، بعد أن تقدموا مسافات معتبرة، على طريق التضليل، بل تقدموا على هذه الطريق مسافات في الوعي الرسمي العربي. وهناك من بين الإسرائيليين من عادوا الى بعض الحقيقة، وأدانوا جرائم جيشهم القديمة والجديدة التي طالت المسيرات. أما عُتاة المتطرفين الصهاينة، فقد أوقعت المسيرات فيهم ذعراً، عندما بدت الجريمة مكشوفة أمام الأمم القريبة والبعيدة، وباتوا يفتشون عن وسيلة لتهدئة الناس في محشر غزة، لأن مثل هذا الحدث، من شأنه أن يتفاقم وأن يستولد أحداثاً أخرى من نوعه وجنسه!