ما حدث في غزة الجمعة الفائتة، أثناء مسيرة الجماهير الفلسطينية باتجاه الحدود، هو في جزء كبير منه معركة "الصورة"، وما حدث بعد المسيرة، هو نموذج واضح لكيف يجري اللعب بالأحداث، والصور، إعلامياً وسياسياً. هو درس يستحق من الإعلاميين وأساتذة الإعلام تدريسه لطلبتهم، عن كيفية تقديم الخبر، وكيفية "التلاعب" به.
قدّم أحد ضباط الجيش الإسرائيلي، العاملين في الشق الإعلامي للصراع، كاريكاتيرا، من مصدر عربي، مع تحريفه، فالرسم الذي تظهر فيه عائلة فلسطينية مسالمة، تقليدية، تحمل مفتاح العودة، وتمشي باتجاه الحدود، حيث يواجهها الجنود الإسرائيليون، القناصة، الذين قتلوا وجرحوا قرابة 1500 شخص (16 شهيدا)، في المسيرة، ظهروا في الرسم المحرف، وقد اختفى الجنود، ولكن وقف خلفهم مسلّح فلسطيني يرغمهم على السير، وكأنّ الجماهير التي خرجت مرغمة ومدفوعة، وهذا محور أساسي في الدعاية الصهيونية حاليا.
ما يزال رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، يزعم أنّ الجيش الإسرائيلي، هو "الأكثر أخلاقية في العالم"، ويهاجم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على هذا الأساس، لأنه انتقد الإسرائيليين، ووصف نتنياهو، بأنّه "إرهابي" ويذكّره أنّ الجيش التركي يقتل المدنيين، ويقصفهم، في إِشارة على ما يبدو للعمليات التركية ضد الأكراد في سورية.
نشرت "نيويورك تايمز" تقريراً مفصلاً عن معركة "الفيديوهات" بين الفلسطينيين والإٍسرائيليين، بعد المسيرة، وأشارت إلى فيديوهين نشرهما الجيش الإسرائيلي أثناء وبعد الأحداث، مع تلميح أنهما لا علاقة لهما بالمسيرة، وأنهما خضعا للمونتاج والإضافة، أحدهما لمجموعة مسلحين فلسطينيين، قيل إنهم يخترقون الحدود وجرى الرد عليهم بنيران الدبابات، (فيما يبدو أنه من مواجهة سابقة)، فأقحمت هذه الصور وكأنها من المسيرة. و"مونتاج" آخر لمتظاهرين يلقون حجارة وزجاجات حارقة. وأشارت الصحيفة، لفيديوهات فلسطينية مضادة، ولكن من دون تشكيك بصدقيتها. وأشارت مثلا لفيديو قتل الشهيد عبدالفتاح عبدالنبي (19 عاما) بطلقة في الظهر أثناء ركضه بالاتجاه المعاكس بعيدا عن الحدود، وأشارت لاتهام إسرائيل له بأنه من "حماس"، وأوردت أن "حماس" لم تعلنه ضمن شهدائها، في تشكيك بالرواية الإسرائيلية. وأشارت لفيديو امرأة أصيبت وهي تمشي حاملة العلم للحدود، وفيديو رجل أصيب برجله لحظة وقوفه بعد الصلاة.
يعترف الناطق باسم الجيش الإسرائيلي، رونين مانيلس، أنّ "السيناريو الكابوس" كان انهيار السياج الحدودي، وتدفق الفلسطينيين عبره، ولكن الكابوس، كما صوره مانيلس، أن القتل كان سيكون أكبر كثيراً. (وليس كابوس الإسرائيليين عودة الفلسطينيين إلى ديارهم).
تُنهي الصحيفة تقريرها بقصة أحد الشهداء، الذي تقول زوجته التي كانت معه في المسيرة، ولكن لم تكن تراه لحظة الاستشهاد إذ تقدّم عنها، إنّها لا تعرف إذا كان يرمي حجارة، ولكن الصحيفة تشير إلى رفع علم "فتح" في بيت العزاء، وأنّه سجن في سجون "حماس" سابقاً، وتشير لانتقاد الزوجة لقادة "حماس" وأنهم أرسلوا الشباب للحدود وما يهمهم الحفاظ على مواقعهم، ويشير أقاربه إلى أنّ الشهيد كان يعمل من الفجر حتى الليل بجمع البلاستيك وعلب المشروبات الغازية، ليبيعها، وكان نحيلا مثل هيكل عظمي. وأنّه فضّل أن يكون شهيداً. وهذه القصة وإن كان فيها لمز، ربما غير مقصود، من منظمي المسيرة، واقتراب من الرواية الإسرائيلية، فهي تشير لصعوبة الوضع المعيشي.
كثير من الأحداث "لا تطوى صفحتها" إلا بعد الانتهاء من تقديم التفسيرات، والتأويلات لها. ولا تتضح النتائج السياسية والفعلية إلا بعد أن يُثبِت أو يعزز طرف ما معنى معينا للحدث. ففي كثير من الأحيان، الحدث هو جزء من الفعل، ولكن "صناعة المعنى" هي الجزء الآخر، لأنّ ردود فعل السياسيين والناس العاديين على السواء، مرتبطة بصناعة المعنى، لذلك يرفض الإسرائيليون مثلا أي تحقيق دولي فيما يجري.
إذا كانت هناك مسيرات جديدة ستحدث، فإنّ أول سؤال يجب الإجابة عنه، هل يمكن صياغة وحدة فصائلية وشعبية في الميدان لا يدعي أحد، أو يلصق بأحد، فضل أو ذنب، المسيرة؟ وثاني سؤال، هل يمكن جلب مراقبين دوليين وإعلاميين عالميين، وربما عرب، ليكونوا لجنة مراقبة محايدة مسبقة، من دون انتظار الإسرائيليين؟ وثالثا، هل يمكن وضع خطة إعلامية مسبقة، تستند على فهم عناصر الدعاية الإسرائيلية المعتادة، ومن ثم تفنيدها؟