أسفرت نتائج انتخابات الرئاسة المصرية، عن فوز راجح للرئيس عبد الفتاح السيسي. وبعيداً عن المماحكات والسجالات المتفشية؛ يمكن لهذا الحدث أن يُناقش بمفردات السياسة، وبالنظر الى أوضاع مصر الراهنة، وما وقع في المشهد الوطني المصري، من تصدعات على إثر ارتجاعات زلزال 25 يناير 2011 وما تلاه من تداعيات هددت مصر المستقرة تاريخياً، باستقرار جريان نهر النيل؛ تقتضي الموضوعية البحتة، ومعها الإحساس العالي بمسؤولية الكلمة، الإمساك بناصية المنطق لطرح أسئلة المرحلة، التي من شأن الإجابات عنها، أن تدحض كل التخرصات التي تطعن في السياق الانتخابي في مصر، دون أن تطرح بدائلها السديدة!
فلا مناص من التسليم بأن تجربة الرئيس عبد الفتاح السياسي في ولايته الأولى، وقد خاضت معركة تثبيت الدولة واستمرار التنمية، والإجهاز على بقايا الإرهاب الذي تديره وتحث عليه القوى الكبرى المتربصة بالأمة العربية، وهي القوى نفسها، التي تنبعث من خلف صفوفها الأولى أصوات التباكي على الديموقراطية الباتة وعلى التزيد في طلب الخطاب السياسي البليغ والأنيق، وهي قوى لم تدخل قرية ولا تحكمت في خيمة إلا أفسدتها وأنامت ريحها!
فما الذي أراده هؤلاء الذين اعترضوا على استجابة المؤسسة العسكرية لملايين المصريين الذين استشعروا الخطر المحقق، من استمرار حكم جماعة "الإخوان" وخرجوا يوم الثلاثين من يونيو 2013 لدفع الخطر عن حياتهم وعن مستقبل أجيالهم، وهو خطر يمكن رؤيته من خلال سلوكيات الجماعة وارتباطاتها تاريخياً، ومن خلال تفصيلات تجربتها التي اتسمت بالتعجل الى الإقصاء وفرض الرأي الحزبي الأصولي، وإيقاع الشروخ في المجتمع التعددي، ونسف أسس الدولة المدنية، وتشويه تاريخ مصر المعاصر بوصفه حكم عسكر، وكأن المسألة تتعلق بعسكر نابليون أو عسكر الإنجليز، وتتعامى عن انجازات التنمية والتصدي للنفوذ الاستعماري والثبات الاقتصادي، وتمكين الشعب من الحياة الكريمة، بالحد الأقصى المتاح، والتصلب في حماية الاستقلال الوطني ما دعا كل القوى الإستعمارية وأذنابها، الى التكالب على مصر، والتربص بها والدفع بالعدوان تلو الآخر على أرضها، بأحجام تفوق قدرة مصر، على مواجهة قوى الشر ودولها الكبرى مجتمعه!
في أسئلة المرحلة، التي تكشف زيف طروحات المعترضين ومقاصدهم؛ نتساءل ابتداءً: ما الذي يريده هؤلاء بالضبط، إن كانت الطبقة السياسية الحزبية في مصر، إما هزيلة أو في أحجام النوادي النخبوية، أو تعتمد العنف الأهلي، أو مرتهنة الى مرجعيات في الخارج؟ فهناك، في الواقع المصري، لم يكن موجوداً في يونيو 2013 على الصعيد المؤسسي، إلا مسؤسستين متماسكتين: الجيش الذي يحمي الدولة، ويؤمن للمجتمع ما يلائمه للاستمرار في مسيرته التنموية والحضارية وفي دوره التاريخي، ولسد الثغرات التي تكاثرت، بعد أن أوقعتها في جدار البلاد، شرائح طفيلية وأوساط البزنس المتوحش، خلال فترة الحكم التي سبقت 25 يناير بثلاثين سنة. أما المؤسسة الثانية فهي جماعة "الإخوان" التي لها رؤية مضادة لكل تفصيلات بُنية الدولة ومجتمعها، حسب ما تنطق به "رسائل" مؤسسها حسن البنا، ولهذه المؤسسة اقتصادها الذي هو حصاد استثمار الدين الإسلامي الحنيف ورمزيات الأمة، إذ يتبدى في تلك الرؤية، التخلف والتصنيف الجزافي للناس والافتئات، وعزل المكون المسيحي القبطي والمرأة والقوى المدنية والثقافة والقضاء وتحجيم مصر في السياق التاريخي، وصب اللعنات اليومية على الرموز الوطنية في كل حقول النضال الوطني والمعرفة، وتحاشي المساس بسيرة خائن أو متوطيء في التاريخ العربي المعاصر. ولو افترضنا أن هناك قوى ديموقراطية حزبية، وفتشنا عنها، فإننا سنجد هوانها وضآلتها وقلة حيلتها وانصراف الناس عنها، عناصر مساعدة على التمكين لكل طوابير الظلام، من استقرار مصر وتنميتها وأمن شعبها.
الافتراض الوحيد المطروح، الذي يشكل قاعدة الاعتراض، هو أن ما حدث انقلاب عسكري. لكن ما كانت مصر في صدده، منذ الرابع من يوليو 2013 هو سياق بدأ بعشرات الملايين من الشعب واستمر بها، وربما تخلفت بعدئذٍ، عن السياق، شرائح لم تر ما يراه الممسكون بمقاليد الأمور ويتابعون تفصيلات المشهد ويعرفون الواجبات الاستراتيجية للحكم. فقد تغاضت هذه الشرائح عن المسائل الجوهرية، وأمسكت بالقشور، وبعضها أراد لنفسه دوراً لم يحن أوانه، بينما الشعب لا يزال معرضاً للمفخخات والتفجيرات وللحرب التي يدبرها الطامعون في مصر وفي أخذ دورها، وإرهاقها وقتل شبابها في سيناء وغيرها!
ولعل من بين المفارقات التي بدت لافتة، أن الأصوات الداعية الى التمكين لجماعة "الإخوان" في مصر، تحتمي بكيانات سياسية لا ترضى لنفسها التمكين في دواخلها، لثقافة الجماعة وتنظيمها وأدبياتها. كان الأجدر بصغريتها قطر، أن تجرب التطبيق الإخواني على نفسها، قبل أن تدعو الى التطبيق على بلد كبير ومتعدد وذو إرث سياسي وحضاري زاخر.
كان المنطق الواقعي يقتضي أن يُسلّم المعترضون باستحالة أن تحكم الجماعة بلداً كبيراً، هو الإقليم القاعدة في العالم العربي، بإرثه الحضاري ووزنه السكاني ودوره التاريخي، وأن تتأسس على هذا التسليم قوة اجتماعية ضاغطة في اتجاه تطوير النظام السياسي، لكي يتقدم سريعاً وحثيثاً على طريق الدولة العصرية، والتخلص من كل أسباب التعثر. فالطريق الى الدولة العصرية، ليس عملاً تضطلع به جماعة أصولية، دون القوى الوطنية، ولا شريحة سياسية نخبوية دون الجماهير الغفيرة. ولا حلقات صغيرة لا امتداد لها في المجتمع، ولا تضطلع به منابر الهجاء السياسي. فما قامت به القوات المسلحة المصرية، كان عملاً إنقاذياً ساندته قوى الشعب، وحلّ عبد الفتاح السيسي في المقدمة، وفاز بالتفويض الشعبي رئيساً يستكمل مهمته الإنقاذية!