سيُصار على الأرجح، الى تطويق عاجل، من المنظور الأمني، لتداعيات أحداث غزة وما تلاها من معطيات أطلقت حديثاً لا زال يجري حتى الساعة، عن احتمالات حرب. ولعل العنصر المشترك الذي يفرض نفسه على جميع الأطراف؛ هو قناعة الجميع، بأن بؤس غزة وضائقة سكانها والمظالم الضاربة فيها من كل حَدبٍ وصوب، هي سبب قابلية الفضاء الاجتماعي العام، في غزة، للاحتشاد بكثافة لها سمة الإجماع، ضد الطرف الصهيوني الأشد عداءً، والذي هو أصلاً منبع البلاء والشقاء، ولا تُرجى منه استعادة حق، ولا خفقة رِفق.
أما الأطراف الثلاثة الأخرى، وهي الفلسطيني الرسمي، والعربي الذي يغلق الحدود ويقيد الحركة، والدولي الذي يتابع بقلق؛ فإن التعاطي المرتجى مع قبائحها وجمالياتها، أصبح يحتاج الى خطاب جديد بصوت جديد، ويتطلب صيغة فلسطينية جديدة، على خط السياسة ببعدها الاجتماعي. ذلك لأن هَبّة يوم الجمعة في غزة، وحجم الدماء الزكية التي تخضَّبت بها الأرض في يوم الأرض؛ تحتاج الى ما يليق بها من العمل الوطني القادر على انتزاع المجتمع الفلسطيني من براثن حُراس الأذى ومسببيه والمشاركين فيه!
لا زالت كل المعالجات من خارج مسرح المعاناة، مَوضعية وتحايلية، وليست موضوعية ولا ذات استقامة. فهي تنحو الى التسكين لا الى العلاج. فمن يتحدث عن شقاء مقيم ويستنكره، ويحذر من انفجار، يتجاهل عمداً صانعي الشقاء والبؤس والمتسببن في المخاطر. وهؤلاء لا يضعون النقاط على الحروف ولا يحددون مصادر الخطر ولا أسماء منتجي اليأس.
لعل أول المسكوت عن خطاياهم، هو عباس الذي كلما علا صوته الفاجر وهو يتوعد غزة بالمزيد من الخنق، كلما ازدادت الأطياف التي تسمي نفسها وطنية وتنضوي في منظمة التحرير، خرساً وجُبناً، وكأن لا فضاء في هذه الدنيا ولا منابر ولا عناوين صديقة وشقيقة أو حتى محايدة، يمكن أن نوجه اليها نداء الاستغاثة من الشيطان، أو دعوة لأن تحكم بين شعب فلسطين والممسكين بمقاليد أموره!
على صعيد الطرف السلطوي، يخرج نصابون متحايلون ومعهم انتهازيون مستفيدون وبعض الجهلة، يقولون لنا إن عباس يعاند ترامب وترامب يستهدفه، وكأن الشعب الفلسطيني يصرف على عباس شخصياً نحو أحد عشر مليون دولار شهرياً، ويُصبر على تحكمه الضال، في مقدراتنا؛ لكي يطاوع ترامب ويتماشى مع حماقته. أو كأن ترامب لا يستطيع تطيير عباس في دقيقة دون أن يأسف عليه أحد، بعد أن أضعف نفسه أمام شعبه وأذلها أمام العدو بالتواطؤ الأمني الذي لم يطلب العدو نفسه تقديسه. أو كأن معاندة ترامب لا تستوجب جمع الناس والانحياز لها، وإعطائها حقوقها، وتكريس العدالة والاستوثاق بالأطر الدستورية التي هي العروة الوثقى، بدل إهانة الناس واستلاب حقوقها وزرع البغضاء وإطلاق النعرات وممارسة الإقصاء وتجويف الأطر وشطب الحقوق المدنية، وتسليط دوائر الأمن على الفلسطينيين، وتقييد الحريات السياسية.
لم يعد أمام الشعب الفلسطيني، سوى الذهاب الى تحالف للإنقاذ الوطني، يخاطب كل المنابر والعناوين، ويضع النقاط على الحروف مع الأشقاء والأصدقاء، كلٌ حسب الأذى الذي يسببه لنا، ويحدد موقفه من العدو على أرضية كل مدركات القضية. فالعدو لن تُجدي معه السياسة، وإنما يجدي معه الحضور والصمود على الأرض وبقاء العين التي تتحدى المخرز، والاحتفاظ بحقنا المشروع في المقاومة، طالما أننا غير قادرين على تعديل موازين القوى العسكرية.
لا بد من جبهة إنقاذ وطني فلسطينية، تعيد لمنظمة التحرير الفلسطينية حيثياتها المُدمرة. ويخطيء من يتوهم أن هناك حركة أو فصيلاً يتمتع بالقوة على المستوى الموضوعي مهما كان شكل المكابرة. فالكل ضعيف وراضخ أو خائب أو مكروه من الشعب. والشعب هو الباقي، وهو الذي يمتلك ممكنات القوة، والقضية ستظل هي القضية!
لا معنى للدماء التي سالت، أقدس من نداء النهوض السياسي والانطلاق الى أفق جديد. إن هذه هي الوجهة الصحيحة والواجبة، بعد حدث غزة!