في الوقت الذي حرص فيه بعض أعضاء مركزية عباس، على التزمير للفت الأنظار إلى حضورهم في مشهد يوم الأرض؛ اندلق مغردون موالون، يتحدثون عن لا جدوى الاحتشاد، وعن عبثية إحياء الذكرى، بتكثيف المشاركة الشعبية. ومعظم هؤلاء من زمرة المساكين الذين أجبروا ــ بغير مناسبة ــ على مبايعة عباس وتفويضه، عبر وسائل التواصل الاجتماعي في الحيّز المُتداول فلسطينياً، كأنما هم يتظاهرون ضد الناشطين الساعين الى صون حقوقهم كمظلومين ومستهدفين، لا حول لهم ولا قوة. ولأن زمرة الموالين غدت بلا ثقافة سياسية، ولم تطرأ على ذهنها أسباب الاحتشاد وضرورته؛ فقد تركت مركزية عباس الحصاد كله لحماس، تربحه عند مواليها وعند المحايدين، وتخسره عند المحللين الرديئين الذين تحدثوا عن دماءٍ ذهبت سُدى!
ولكي تزداد فتح العباسية ضعفاً بعد ضعف، ويتفاقم مأزقها على الصعيد الاجتماعي للسياسة، فقد أظهرت تلعثماً واستحثت السخرية واللعنات، عندما قالت إنها تستنكر إستخدام العدو القوة المفرطة، وكأن شطب رزق ستة ألاف أسرة بأطفالها في يوم واحد ــ مثلاً ــ دونما أدنى تفكير في أوجاع الصغار وإهانة الكبار وعوز الآباء والأمهات، ومنع الدواء والكهرباء والحركة، هو محض استخدام معتدل ورقيق للقوة، من قبل الطرف الفلسطيني نفسه.
وفي الحقيقة، لولا أن الحضور الفتحاوي الوازن، الذي وَفره التيار الديموقراطي في الحركة العريقة، لكنا بصدد الإعلان عن تقبل التعازي في وفاة حركة فتح مع الدعاء لقوافل شهدائها بالرحمة!
أعضاء مركزية عباس، الذين اضطروا الى الإعلان عن المشاركة، لكي يتحاشوا فضيحة الغياب؛ لم تدفعهم إلا معطيات وعيهم الباطني. فالمارد الفلسطيني عندما يخرج من قمقم غزة، من شأنه إزعاج "المقاطعة" مع تل أبيب. فالأولى تعرف أن مشهد الاحتشاد الغفير، سيؤدي تلقائياً الى تعويم كل رزايا الحكم العباسي ووضعها أمام العالمين، جنباً الى جنب، مع سفالات الصهيونية وجرائمها ومظالمها. وفي الأساس لن يكترث أي طرف بالشعب الذي يلوذ بالصمت، ولا بالخانعين، أما الهادرين الذين يُرخّصون دمهم لإعلاء فكرة الحق والذكرى نقيضة النسيان؛ فهؤلاء هم الذين يُحسب لهم الحساب، وبسبب وقفتهم ينطوي الظالمون على أنفسهم، ويحاولون تعديل سلوكهم وخططهم، لعلهم يخففون من نقمة الجماهير. ذلك لأن التشخيص الأمني للبؤس، من جانب القوى المعادية، من شأنه الجزم بأن عباس ينتج التطرف، ليس بدافع الرغبة فيه، وإنما بدافع افتراضه سلفاً ولمحاولة خنقه، في سياق لا إنساني وكيدي، مقرف وبغيض!
دماء شهدائنا في يوم الجمعة، لم تذهب سُدى. فقد أدرك المعتوه نفسه الذي يسكن البيت الأبيض، أن جريمة الظلم التاريخي لا زالت جرحاً مفتوحاً. أما هزال المقاومة الشعبية التي يزعمها عباس ولجنته المركزية في الضفة؛ فلن يؤهل الفلسطنيين لإرسال مجرد برقية احتجاج، حتى لمن يسمى المنسق العسكري الإسرائيلي. وفي حال اشتدت الكثافة الشعبية في الضفة، لن تكون معطوفة على مقاومة لجنة عباس المركزية، التي أصبحت في موضع السخرية، وأنما معطوفة على شعبنا، وعلى الغالبية الرافضة لكل ممارسات الحكم. وهذه بالطبع، تستحث تخوفات عباس وحلقته الضيقة، وتستحث رغبته في القمع الفوري بهراوت المتدربين على القمع في دول النواطير!
إن هذه الحسابات طبيعية، لأن الذين تمادوا في إضعاف عافية الإنسان في غزة، كانوا ينتظرون وتحوله الى متسول، يستجدي لقمة الخبز في ذِلة، والى عاجز عن أي حراك، وربما استأنسوا بالانطباع الافتراضي العنكبوتي، بأنهم نجحوا في فرض الرضوخ، وانتزعوا من أصحاب بقايا الرواتب، تفويضات ومبايعات لعباس. ولم يفكر المفلسون الفاشلون، أن الإنسان عند تخييره بين فقدان بقايا الخبز أو نشر تفويض بلا معنى على صفحة التواصل المقروءة فلسطينياً بكل الاستهزاء، سيختار بقايا الخبز ولن يلومه أحد. لكن هذه أساليب سفيهة وليست سياسية، وتدخل ضمن جنس الممارسات الفاشية التي تليق بأصداغ عباس. في يوم الجمعة، أثبتت جماهير غزة المستهدفة بالإقصاء، والمحارَبة بالمناطقية التي لم تكن تؤيدها روابط القرى العميلة، أنها لا تزال قوية وحارسة لكل معاني الوطنية!
لن يسمح الفتحاويون بإطاحة حركتهم وخنقها في مناخ عباس ذي الهواء الناقص والعفن. ففتح هي التي افتتحت مشروع الحلم الوطني وقبضت عليه كالجمر في كل الميادين والمراحل، وهي التي ستبقى حارسة الأمنيات الكبرى. أما الصغار المناطقيين الموتورين المنعمّين بالمال المستلب من خبز الناس؛ فلا مستقبل لهم، لا في حضور أصداغ عباس ولا في غيابها!