في الطرف الأخير من آذار، يمتد الفلسطينيون في الأرض. وبدورها، تسري الأرض في عروقهم وتنزف دماً طاهراً قاني الإحمرار. وتنزاح الى جانبٍ قَصيْ، كل المواعيد الغامضة، ويؤذنُ الحبُ للطيبين بالدخول الى ساحته، وبمغادرة ساحة الأحزان، إلا الجاحدين المستنكفين عن الوداد، الذين استغلق عليهم فهم الأرض وفهم الإنسان. هؤلاء، الأخيرون، وفي أيامٍ كهذه، ينزوون في زوايا مظلمة، لكي يتركوا الذاهبين الى الحُلم الفلسطيني، يسافرون وحدهم، لعلهم أحلامهم تضيع، وتبقى الكوابيس!
في يوم الثلاثين من آذار، تنبلج الذكرى وتتكثف، وتتكشف الأرض المحتبسة والمثقلة بالشر الصهيوني، عن أرض تقترب من أهلها. وفي الأثناء، تنهض خيول الأجيال، لكي تؤكد على استحالة النسيان، وعلى البقاء مع الجُرح ومع الريح. تلمع في وجوه الصغار، مشاهد الحصاد في قرى أجدادهم، وصور الحياة الزاخرة في مدن السابقين، ويتحقق الشُبان والصبايا، من أن ربيع الآخرين يأتي ويغادر سريعاً، أما ربيع أحلامنا فهو الباقي، لأنه الربيع النهائي!
في يوم الأرض، نعود الى كل الذي مضى، كأنه حدث اليوم. نستذكر كل شهداء الخارطة، وحجارة الطريق الطويل، وكل دار وحبل غسيل، وحشائش القبور ومسالك المقاومين، ومواضع الآبار. فمن محاسن الصدف، أن أرضنا لا تعرف الجفاف، وفيها تنبت الحشائش والأزهار والأطفال، وتزدان البساتين بحبات البرتقال، إذ تقترن الأرض بأشجارها في زواج أبديْ. فلأجل هذه الحياة يضحي الشباب اليافعون بحياتهم، لكي تتكامل فلسطين وتحيا، ويمتد نشيدها بمحاذاة أشجار الزيتون في المكان وعلى طول الزمان!
في هذه السنة، وفي كل سنة آتية، بدأنا وسنظل نصنع المعجزة التي لم يتوقعها المهزومون والفاسدون والجاحدون اللئام الذين يضربوننا مع العدو عن قوس واحدة. إنها البدء من تحت الصفر في السياسة وفي معطيات الواقع. نُعْلي الصوت لكي نقول للهمج الذين استوطنوا بلادنا، وللحاخامات الفائحين الذين يعربدون في الضفة، إنكم غُزاة عابرون غرباء في كل فلسطين. أما نحن، فأصحاب العصافير في الحقول القائمة بين الشهيق والزفير، وأصحاب التلال والسنابل والزنابق والشطآن والقلاع!
غزة العِزة، يراها شعبها حاضرة فتيّة عفيّة، في كل موعد للعطاء، مهما تكالب عليها المحتلون والأقربون الرمم. فقد حضرت اليوم وشغلت الصف الأول. كان يحسبها الأوغاد واللصوص، الذين احتبسوا عنها الماء النقي والدواء ولقمة الخبز، أنها سوف تخلف ميعاداً بعد أن أعياها الصبر، وإن حضرت فستكون هزيلة لا شيء عندها لكي تعطي. لكن الذي حدث في اليوم الذي تكشَّفت فيه الأرض عن أرض تحتها، سُمع صوت غزة الباسلة تقول للأوغاد التزموا جحوركم، فها هم الشباب يرعدون ويَعِدُون المحتل، بقلق وجودي مديد يلازم أوقاته حتى يرحل، فلا نامت أعين الجبناء المحتلين، ولا حفنة اللصوص من ذوي القربى، سارقي خبز الأطفال وحقائب مدارسهم!
لا نشيد يلائم هذا اليوم، سوى نشيد الحُلم والقدس والندى. إن المواجهة الرئيسة، الآن، مع سارق الأرض الذي أخفق في استلاب الذكرى وانكشف، وفشل في استلاب القلوب، ولم يستطع إسقاءنا كأس النسيان، ولا استطاعت حفنة الأوغاد الزائلة قريباً إسقاءنا كأس الذل. فيا سالبي خبز الفقراء في غزة.. ها هي غزة التي تستقوون عليها في مأمنكم من أظافرها، أيها الوضيعون الواهمون الحالمون بمجد بشبه سحناتكم. لستم أكثر من فرسان خيول جامحة في وجوه الأطفال، ضلت الطريق وأضاعت نفسها ولن تجدها. إن موعدكم معنا، في يوم آخر. أما في يوم الأرض والإنسان والحُلْم، فإن الجُرح يتجدد والأمل مع الألم، وتستيقظ الفرس الأصيلة وتصهل، ويعلو موج البحر، ويسكب الزيت الفلسطيني أقماره ويحضن ذاته الكبرى، ويُضيء نافذة البحر على البحر، مُنْبئاً بالموج القادم!
طوبى لشهداء يوم الأرض والإنسان الشامخ والحُلم النورانيْ. طوبى لأهل فلسطين في وطنهم وشتاتهم.لا نامت أعين العدو ولا استقر للصهيونية موطيء قدم في بلادنا!