لا تزال أوساط الرئيس محمود عباس تعتقد أنها تستطيع عقد "مجلس وطني" في المقاطعة (المقر الرئاسي)، مهما كانت ظروف الإنعقاد حضورا وغيابا، وتحت ذريعة مثيرة للسخرية السياسية، أسمتها تجديد "الشرعية الرسمية".
إصرار فريق الرئيس عباس، على عقد مجلس في رام الله، بمن حضر رقميا، دون الإهمتام بالحضور السياسي، فذلك اعلان رسميا بإنتهاء مرحلة سياسية فلسطينية، بدأت مع الإنطلاقة الثورية المعاصرة للشعب الفلسطيني، وقيادة ممثليها لمنظمة التحرير 1968، ونقلت معها المنظمة من واقع تنظيمي "محكوم" بآليات عربية رسمية، الى صياغة جديدة للقرار الوطني الفلسطيني.
حافظت منظمة التحرير منذ ذلك الحين على خيط ناظم، ساهمم بقوة على حماية المنظمة وترسيخها ممثلا شرعيا للشعب الفلسطيني، بفضل آلية عمل "عبقرية"، كرسها قادة الثورة - المنظمة، إنطلقت مع تطوير مفهوم "الوحدة الوطنية" الى "الشراكة الوطنية"، ما ادى لإستمرار منظمة التحرير، رغم كل المؤامرات التي تعرضت لها، ومحاولة تقسيمها وفقا للمشهد العربي، او خلق إطر موازية - بديلة، كما كان من إنطلاقة حماس كفرع عسكري للإخوان المسلمين عام 1987، حاولت أطراف عربية وغير عربية إستخدامها في مواجهة منظمة التحرير.
قيادة الثورة - المنظمة، وفي المقدمة منها الزعيم الخالد ياسر عرفات، أدركت قيمة الوحدة والشراكة، ليس لإستمرار الثورة وترسيخ مكانة المنظمة فقط، بل لأنها السبيل الوحيد لتحقيق المشروع الوطني، ولم تنحاز يوما لإستخدام "الأكثرية الرقمية" لحركة فتح لفرض "قرار أو هيمنة"، رغم ان ظروفا عدة كانت تسمح لها بذلك، وحتى في المحطة الفارقة التي كادت أن تحدث "خرقا إنقساميا" لتلك المعادلة عام 1984، بعقد المجلس الوطني بدون "شراكة كاملة" في عمان، حيث قاطعت فصائل مركزية عقد المجلس، ومنها الجبهة الشعبية والصاعقة والقيادة العامة، مكونات ذات ثقل في تكوينة المجلس الوطني، أعادت القيادة عقد مجلس وطني في الجزائر بذات الرقم 17 مكرر، في محاولة لتجاوز محطة كانت الأخطر على وحدة منظمة التحرير.
كانت تستبق أي جلسة للمجلس الوطني، حركة مشاورات واسعة لما يعرف بـ"القيادة الفلسطينية"، التي تشكلت كإطار يصنع القرار قبل أن يذهب الى الجهات التنفيذية، إطار يضم الصف الأول من قادة الفصائل وشخصيات مستقلة ذات وزن سياسي، الى جانب أعضاء تنفيذية منظمة التحرير..إطار كان عمليا هو من يقرر ويصنع أي قرارات ثم يتم الإقرار الرسمي في الأطر الرسمية، تنفيذية أو مجلس وطني..لكنها آلية شكلت "جدارا واقيا" لإستمرار وحدة الثورة والمنظمة، وقبلها ان تترسخ المنظمة ممثلا شرعيا وحيدا.
اليوم ما يحدث لا يمت بصلة لتلك التقاليد الوطنية - الثورية، بل نقيضها في كل مشهدها، حيث قرر عباس وفريقه منفردا موعدا لعقد مجلس، زمانا ومكانا، وتجاهل أن المكان لا يمثل مكانا للتوافق الوطني، وليس مكانا وطنيا آمنا، بعد ان اصبحت دولة الكيان هي الحاكم المطلق لحركة الحياة السياسية في الضفة الغربية، وأن اي قادم أو خارج من "شمال بقايا الوطن" يجب أن توافق عليه سلطات المحتل، بما فيها حركة الرئيس عباس نفسه، وهو لا يستطيع ان يذهب من بيته لمكتبه والعكس دون "تنسيق أمني" مع المحتلين.
المكان، هنا يمثل نقطة فراق سياسي وهو يعرف تماما، بعد أن فشل بمحاولة سابقة لعقد مجلس بذات الشروط، حيث رفضت غالبية القوى المركزية الممثلة لمنظمة التحرير، وايضا موقف رئيس المجلس الوطني "المجاهد" أبو الأديب، الذي سيكون أول الخارجين من وقعه لفتح الباب لردم مرحلة والبدء بمرحلة.
إعادة "المحاولة العباسية" تحت ذريعة كاذبة وخادعة، تجديد الشرعية تفتح الباب واسعا لتدمير منظمة التحرير بصيغتها القديمة، كقائدة للحركة الوطنية والشعب الفلسطينية، وتشكيل "إطار مستأنس كليا" مع المرحلة التي يتم الإعداد لها، لتكريس "إطار" لبعض التمثيل"، فيما يفتح الباب واسها لإطر جديدة.
وإستنادا الى مزاعم فريق الرئيس عباس، بأن النصاب الرقمي بات مضمونا، دون اي تفاصيل، مع أول إشارة لتزوير فيما يعرف بعملية إستبدال الراحلين من المستقلين، ودون تحديد لممثلي المنظمات الشعبية، وسبل الاخيتار، في ظل غياب البعد الديمقراطي، ومع عدم مشاركة حركتي حماس والجهاد، والى الآن الجبهة الشعبية، وربما الديمقراطية، مع رفض الصاعقة والقيادة العامة، وجزء هام من فتح ( تيار الإصلاح بقيادة دحلان)، يتحول " مجلس رام الله" الى جلسة تدشين لمسمى غير المسمى.
المسألة ليس سباقا لتلبية رغبة محمود عباس، وهو يعيش طروفا صحية وسياسية لا تمنحه القدرة على إتخاذ القرار لمناسب، وكان الأجدر من حركة فتح، حماية لتاريخها أولا، وصيانة لوحدة التمثيل الوطين ثانيا، ولمنع تدمير مكتبسات شعب ثالثا، ان تقف هي قبل غيرها لترفض اي خطوة انعزالية دون توافق وطني..ومن يعتقد ان العالم سيحترم اي مؤسسة ستتشكل دون وجود قوى مركزية فيها، ليس سوى غبي سياسيا وساذج وطنيا.
لا زال هناك وقت لوقف هذه "المهزلة الأخطر" على المنظمة والمشروع الوطني..