الكوفية:ليس من المنطق في شيء تمجيد الموت القاسي. وعندما يرتقي الشهداء في فلسطين، فإن أجزاء من روحنا تتقطع. كان ينبغي أن يعيش هؤلاء الشباب مثل بقية الناس، لكنهم عاشوا في ظروف من مصادرة الحرية والإذلال والتجويع واستهداف الكرامة الفردية والوطنية، والتي جعلت الحياة نفسها مريرة بطعم الموت. وليس في الكَون شيء أسوأ من أن يكون الموت هو الطريق إلى الحياة.
الوضع الفلسطيني سيئ بكل المقاييس. ويحتاج سرد الظروف التي تجمعت ضدهم من كل ناحية إلى مجلدات. من البداية، لم يكن خصم الفلسطينيين هو المشروع الصهيوني الاستيطاني وحده، وإنما كان بريطانيا العظمى في قمة صلفها الإمبريالي. وبعد ذلك، أصبح الوصي على إحباط آمالهم وتسهيل قتلهم هو أقوى قوة في العالم، وفي عز استهتارها بكل ما عداها، الولايات المتحدة، بما تمثله من أسوأ صفات المستأسد العالمي. وطوال رحلة الفلسطينيين المريرة منذ الانتداب البريطاني والنكبة، وحتى اليوم، لم تُنصفهم مؤسسات القرار الدولي، ولم تنتصر لقضيتهم بطريقة مفيدة، لا الدول الإسلامية ولا العربية. وفي نهاية المطاف، ارتكبت قياداتهم على مر العقود أخطاء استراتيجية هائلة، وانهزمت في حروب السرد، والدبلوماسية – إذا أعفيناها من مسؤولية الهزائم العسكرية، موضوعياً.
الآن، يتعرض الفلسطينيون لمجزرة جديدة والعالَم المؤثر يتفرج. ومع ارتقاء عشرات الشهداء وإصابة آلاف الجرحى في يوم واحد، يتساءل المرء: كم كان عدد الذين سقطوا في الاحتجاجات السورية أو الليبية في 2011 حتى ظهر كل هؤلاء الغيورين على الإنسانية وتدخلوا عسكرياً ومالياً بهذه الحماسة في البلدين، بينما لم يحرك التهجير والتطهير العرقي والمجازر والاحتلال وسقوط عشرات الآلاف من الفلسطينيين في هؤلاء ضميراً ولا عاطفة؟
الحالة العجيبة من النفاق الصفيق عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين معروفة. وقد أصبح الفلسطينيون وحدهم –حرفياً- في الميدان بعد أن جاهر العرب الرسميون بتركهم–سوى
العواطف الصادقة التي لا شك فيها للشعوب العربية. لكن كل هذه القتامة التي ذرورة جديدة في الأيام الفلسطينية الأخيرة تقول أيضاً شيئاً آخر.
إن مجرد اشتباك الفلسطينيين الآن، بعد سبعين عاماً من استعمار فلسطين وتعاقب الأجيال الفلسطينية، يعني أن الفلسطينيين ما يزالون حاضرين بقوة ولم يخسروا معركة الإرادات. وقد تم فعل كل شيء ممكن لتصفية القضية الفلسطينية وتثبيت الكيان الاستعماري في فلسطين كواقع مقبول، وفشل كل ذلك بوضوح. وأتصور أن نقل سفارة الأميركان إلى القدس المحتلة لا يعني الكثير أبعد من الرمزية، لأن القدس محتلة. كما أن موقف أميركا كمعيل للاحتلال انكشف فقط ولم يتغير في عدائه للقضية الفلسطينية وكل قضايا الحرية في العالم.
الآن، ما يزال الكيان –كما هو حاله دائماً- قلعة عسكرية خائفة محاطة بالأسوار، في محيط يرفضها ويؤكد غربتها. ويصف الكاتب ديفيد م. هالبفينغر وضع الكيان الآن في مقال حديث، فيكتب: "يجد الإسرائيليون أن من الصعب الابتهاج والتباهي (بافتتاح السفارة الأميركية) عندما يجدون أنفسهم يفعلون نفس الأشياء التي كانوا يفعلونها في العام 1948: الاستماع إلى صفارات إنذار الدفاع المدني، وإعداد الملاجئ لاستقبالهم، واستدعاء تعزيزات لمواجهة التهديدات التي تأتيهم من الشمال والجنوب والشرق".
بذلك، يكون الفلسطينيون قد كسبوا حرب الذاكرة والبقاء الفيزيائي، كشعب حاضر وعالي الصوت بطريقة يتعذر تجاهلها. وبالإضافة إلى ذلك، ليست هناك أي أمم تتعاطف بشكل أصيل مع الكيان بسبب طبيعته اللاأخلاقية معروفة. ويكفي أن نتأمل أسماء الدول النكرات التي تصوت لصالح الكيان أحياناً، وغالباً بسبب الشراء أو الخوف. كما أن الوعي بحقيقة القصة الفلسطينية يتعاظم في العالم على المستوى الشعبي والناشطين بطريقة لم يسبق لها مثيل.
كان الخطر الأكبر الذي يتهدد الفلسطينيين دائماً هو محو قضيتهم من السجلات وإلغائهم كشعب. لكن أي طفل فلسطيني يبدأ تعلم اللغة في أي مكان في العالم، سيقول اليوم إنه فلسطيني. وما يزال الفلسطينيون يذكرون أسماء قراهم في الوطن لتعريف أنفسهم وانتمائهم أينما كانوا. وفوق ذلك، تقول هذه الأيام الفلسطينية أن العودة إلى الوطن هي الغاية والإيمان المقدس الذي لا يغيره شيء لشعب استعصى على الإخضاع والإلغاء، والذي يكسب يومياً حرب الإرادات.
عن "الغد الأدرنية"