لا ينبغي أن يمر رحيل الثائر النبيل، خالد محي الدين، دونما سطور لإنصافه. فهو أحد الضباط الوطنيين الأحرار، الذين أطاحوا الحكم الملكي لأسرة محمد علي الألبانية، وأسسوا الجمهورية التي علا شأنها في العالم، وتكالبت عليها قوى الإستعمار القديم والولايات المتحدة، ومخلب القط الصهيوني، وتعرضت للإعتداء لإحباط دورها، مرة بعدوان ثلاثي بريطاني فرنسي إسرائيلي، وأخرى بعدوان إسرائيلي ساندته بريطانيا والولايات المتحدة.
عاش زكريا محي الدين حياته مؤمناً بالعمل الوطني، منقطعاً اليه حتى بلغ أعتاب الشيخوخة، واختار إخلاء دوره لآخرين. حافظ في دواخله على القيم التي شب عليها في بيت جده الذي كان أحد شيوخ الطرق الصوفية، وشيخاً للطريقة النقشبندية. ذهب الى اليسار السياسي بحثاً عن العدالة، وشارك في ثورة 1952 التي كان أحد أقطابها، لكي يرفع عن شعبه عبء المهانة والذل والحرمان. لم تمنعه ثقافته الماركسية، من الإعتراف في مذكراته، بأن السلام النفسي الذي لازمه طوال حياته، لم يكن إلا بفضل المتدينين في هدوء وبلا تعصب. قال عن أولئك الذين عاش بينهم في طفولته، إن الإسلام كان عندهم محبة للناس، وتفانياً في خدمتهم بلا مقابل. يتناولون الحياة بتعفف وبلا شَرَه أو ترفُّع، فــ "حتى الأذان، كان هادئاً وديعاً، كأنه دعوة حانية الى لقاء حميم" وأردف قائلاً إن هذه العلاقة الحميمة مع الدين، ظلت تتملكني كل سنوات حياتي. ففي رحاب ذلك العَبق الرائع، قضيت أجمل أيام طفولتي"!
عندمت توفي عثمان، جده وشيخ الطريقة النقشبندية، كان خالد قد غدا ضابطاً في الجيش، تمور دواخله بالعداء للضباط البريطانيين، الذين رآهم من خلال لافته على باب مكتب أحد المستشارين العسكريين الإنجليز. أبعدته اللافتة, عن الطريقة النقشبندية، فقارن بين الدروشة ــ وليس الدين ــ والعمل الوطني. بعد وفاة جده، عرضوا عليه أن يتولى مشيخة الطريقة، لكنه في جوابه الرافض للمشيخة، تعمد أن يذكر للصوفيين محاسنهم، وكتب هو نفسه: إن عبق الدراويش كان قد اجتذبني الى التعبد في طريق أكثر رحابة، وهو خدمة الوطن والشعب ككل, لذا فقد اعتذرت عن تولي المشيخة، فتولاها إبن خالتي"!
على طريق البحث عن مصير أفضل للوطن المكبل بأصفاد البريطانيين والمتمصرين الأجانب؛ مضى خالد محي الدين بقلب ثائر. ولما اطيح بالملكية، وبدأ العمل لإجلاء ستين الف جندي بريطاني على أرض مصر، وتصفية أملاك سادتهم وطرد نفوذهم؛ لم يقطع الشاب الذي كانه خالد، شوطاً طويلاً في السلطة. اختلف مع جمال عبد الناصر الذي أصر على تثبيت الثورة ونظام الحكم الجديد. اجتهد خالد محي الدين وطالب بعودة الجيش وضباطه الى الثكنات، والذهاب بالبلاد الى مناخ ديموقراطي حقيقي. علماً بأن الضباط في ذلك الزمن، كانوا يثابرون على تحصيل العلوم المدنية مع العلوم العسكرية، وكان خالد من هؤلاء الذين حصلوا على الشهادة الجامعية من كلية التجارة. أما عبد الناصر، فقد كان على قناعة، بأن القوى الإجتماعية التي حمت النظام الملكي، وهي قليلة العدد وواسعة النفوذ؛ لا تزال أقوى من أولئك الذين أطاحوا بها، وقد تبدى ذلك جلياً، بعد أن غادر خالد السلطة والبلاد، ووقع العدوان الثلاثي، الذي بادر الباشوات أثناءه، بالتشاور لتشكيل حكومة موالية للغزاة. أحس خالد، بواجبه الوطني فعاد لكي يمارس دوراً في حقل الإعلام، ثم في الحياة الحزبية التي بدأت بعد حرب 1973.
في مذكراته، أشاد خالد محي الدين بذكاء وفطنة الزعيم الشهيد ياسر عرفات منذ شبابه اليافع كطالب جامعي. فبعد ذات جلسة لخالد مع الطلبة في الجامعة إبان العهد الملكي، حذره ياسر عرفات من انكشاف أمره كيساري، وطالبه بضبط لغته لأن بعض مصطلحاتها تدل على ثقافة تترصدها الحكومة.
عاش الرجل حياته مسانداً لقضية الشعب الفلسطيني، رافضاً التسويات المهينة. كذلك عاش اليساري والوطني والأكاديمي المرموق، قدري حفني، الذي رحل مع خالد في الأسبوع نفسه. كان قدري حفني صديق رؤوف نظمي الذي انضم الى الثورة الفلسطينية بتشجيع من قدري، وسمى نفسه "محجوب عمر". فالراحلان، خالد وقدري، رجلان ينتميان الى زمن الحُلم الجميل، والثورة، وزمن الأحرار الذين نافحوا عن حقوق الناس في حريتها وفي معاشها!